قنبلة الهجرة غير النظامية في تونس
مهاجرون أفارقة مع متعلقاتهم يغادرون مخيمهم عنند مشارف صفاقس بتونس (5/4/2025 فرانس برس)
أظهرت فيديوهات في وسائل التواصل الاجتماعي شبّاناً تونسيين مقيمين في بعض الدول الأوروبية، مثل إيطاليا وألمانيا وحتى سويسرا، يهاجمون الرئيس قيس سعيّد، ويحتجّون على توقيعه اتفاقاً مع الاتحاد الأوروبي يسمح للحكومات المنضوية تحت راية الاتحاد بإعادة المهاجرين غير النظاميين، بمن فيهم التونسيون، إلى بلدهم. ماذا يعني ذلك؟... في تلك الفيديوهات، عبّر الشبّان عن هلعهم من هذه الاتفاقية، وذكّروا بالمغامرات التي اقتربوا خلالها من الموت، بعد أن أجبَروا أُسرهم على بيع ما تملك، ومنهم من اعترفوا بأنهم سرقوا مصاغ أمهاتهم، وباعوها، وسلّموا ثمنها للحرّاقين، مقابل نقلهم إلى السواحل الإيطالية. أبعد هذا العذاب المرير يُعادون خلال ساعة إلى مسقط رأسهم في ظروف تعيسة بحجّة "العودة الطوعية"؟
تذكر بعض المصادر أن العدد الإجمالي لهؤلاء المرحّلين من إيطاليا فقط قد بلغ ستّة آلاف وخمسمائة شابّ. ويجري الحديث عن أن السلطات الإيطالية تلجأ إلى إجبار بعض المرحّلين على تجرّع دواء مخدّر قبل صعودهم الطائرة، للحدّ من مقاومتهم. مع العلم أن عديدين منهم غادروا تونس منذ سنوات عديدة، وأحدهم اضطر إلى الانتحار بسبب قرار الترحيل، بعد 22 عاماً قضاها في المهجر. تتعدّد الروايات والمأساة واحدة. يطرح جميع هؤلاء سؤالاً واحداً على الرئيس التونسي: ماذا سنفعل بعد العودة إلى البلاد، باستثناء البطالة والانحراف بمختلف أشكاله؟
يمكن القول (من دون تردّد) إن الخطوة التي اختارتها الرئاسة التونسية لمعالجة ملفّ المهاجرين الأفارقة قد فشلت فشلاً ذريعاً، فـ"الحلّ" الذي اعتُمِد بالتعاون مع الطرف الأوروبي خفّف عدد المهاجرين القاصدين إيطاليا، لكنّه في المقابل وضع البلاد التونسية أمام تحدّيات خطيرة لم يُتغلَّب عليها. فمن جهة، تفاقم عدد هؤلاء المهاجرين واستقروا في عديد من المناطق الحيوية بشكل غير مسبوق، وهو ما أثار مخاوف التونسيين الذين تضرّروا من جرّاء ذلك، ونمت عندهم مشاعر الخوف ونزعات العنصرية، فدعا بعضهم (بمن في ذلك من يحملون الصفة البرلمانية) إلى إعادتهم إلى دولهم قسراً، وهو دفع السلطات التونسية إلى الشروع في ترحيلهم، لكنّ ذلك لن يعالج المشكلة من جذورها. ومن جهة أخرى، أطلقت هذه السياسة يد السلطات الأوروبية في تعاملها مع المهاجرين التونسيين غير النظاميين، وهو ما سيكون له تأثيرات مهمّة في الأمن الاجتماعي في تونس، التي تعاني أصلاً أزمةً اقتصاديةً خانقة.
في غياب رؤية استراتيجية تأخذ بالاعتبار مختلف الأبعاد والتداعيات، ستبقى السلطة التونسية تدور في حالة مفرغة. المستفيد الرئيس من ملفّ المهاجرين، بعض الحكومات الأوروبية، التي لها حساباتها الانتخابية الظرفية، لكن المتضرّر الرئيس، الشبّان التونسيون، الذين لم تسعفهم أوضاعهم العائلية، ولا سياسات بلدهم، لكي يتمتّعوا بالحدّ الأدنى من شروط الاستقرار الاجتماعي، فلجأوا إلى أوروبا بحثاً عن لقمة العيش، فإذا بهم يقعون في شباك التنسيق الأمني التونسي الأوروبي.
لهذا، طالبت منظّمات تونسية ودولية بوقف "تمويل العودة الطوعية من بلدان العبور" مثل ليبيا وتونس، إذ "تصبح العودة خياراً مفروضاً، ما ينتهك مبدأ عدم الإعادة القسرية". كذلك أكّدت "حرية التنقّل وسياسات الحماية"، ودعت إلى "إنهاء التعاون القائم على سياسات الردع ومنع التنقّل، والسماح بحرية التنقّل والاحترام الكامل للحقّ في اللجوء". هذه الضوابط لم تضعها تونس ودول الجنوب، بل وضعتها حركة حقوق الإنسان، وصدّق عليها الجميع، بمن فيهم حكومات الاتحاد الأوروبي. ولذلك، لا يحقّ لتلك الحكومات أن تجمّدها اليوم، أو تلغيها، بحجّة تعارضها مع مصالحها الظرفية. كذلك لا يجوز (في المقابل) أن تساعدها حكوماتنا على ذلك مقابل دعم مالي ظرفي على حساب المضطهدين اقتصادياً واجتماعياً. لا يعني ذلك رفضاً مطلقاً لإجراء تعديل بعض الجوانب مراعاةً لمصالح جميع الأطراف، لكنّ إضفاء الشرعية على سياسات تهدف إلى تحويل تونس مجرّد حارس لحدود الغير، فذلك أمر لن تغفره الأجيال الحالية ولا القادمة.