قمّة الدوحة والحل المطلوب
كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.
وزراء خارجية الدول العربية والإسلامية في اجتماع تحضري للقمة في الدوحة (14/9/2025 الأناضول)
يعيش عالمنا اضطرابات كبرى خطيرة بفعل عُقَد بعض قادة الدول المؤثرة، ومحاولاتهم المستميتة للتخلص من أزماتهم بافتعال الأزمات، والتسبّب في الكوارث، وتسويق ذلك كله بصيغة انتصارات، بل رسائل ربانية. وما يزيد هذه الأزمات تعقيداً يتمثل في نزعات التوسع والهيمنة، والاستلهام الماضوي بنسقيه التاريخي الملتبس والمتخيل، وغياب الآلية الدولية الفاعلة لمنع العدوان، فتغدو المشكلات الدولية جميعها عصية على المعالجات العقلانية.
باتت هذه الوضعية سائدة في منطقتنا، وفي أفريقيا الوسطى والشمالية، وفي أوروبا الشمالية بعد الحرب الروسية على أوكرانيا. وهناك مخاطر حقيقية تنذر بإمكانية اندلاع أزمات خطيرة في الشرق الأقصى، خاصة بعد استعراض القوة الذي حرصت الصين على تقديمه للغرب والعالم، وذلك إثر انتهاء أعمال قمة شنغهاي التي من المفترض أنها اقتصادية.
وبالعودة إلى التاريخ، بمختلف مراحله، يُلاحَظ أن مثل هذه الأزمات العنيفة تندلع بصورة شبه دورية في مناطق معينة من العالم بفعل أهميتها الجيوسياسية، وتوفر الشروط التي تؤدي إلى تفجّر الصراعات سواء على المستوى الذاتي الخاص بالقادة وأساليبهم في مقاربة الأزمات، لا سيما المزمنة منها، أم على المستوى الموضوعي الذي يشمل المصالح الاقتصادية وحسابات التنافس والصراع على مناطق النفوذ والتكنولوجيا المستقبلية؛ هذا فضلاً عن التوجهات التوسعية والحسابات العسكرية البعيدة المدى.
والهجوم الذي شنته إسرائيل أخيراً على الدوحة بذريعة التخلص من قيادات سياسية في حماس، وهو اعتداءٌ دانته غالبية الدول، ودانه مجلس الأمن عبر بيانه ومواقف أعضائه، ودانته الجمعية العامة عبر التصويت الساحق لصالح حل الدولتين، يندرج هذا هو الآخر ضمن إطار موجة الاستخفاف بالقوانين والأعراف الدولية التي تُلزم باحترام سيادة الدول، وضمان سلامة الوفود المفاوضة من أجل التوصل إلى اتفاقيات وقف إطلاق النار، والبحث عن المخارج أو إيجاد الحلول للقضايا المختلف عليها. كما يؤكد هذا الهجوم مجدّداً نزعة الغطرسة التي تهيمن على قرارات وتصرفات حكومة نتنياهو اليمنية المتطرفة، فمنذ نحو عامين يتعرّض المدنيون الغزّيون أطفالاً ونساءً وشيوخاً لهجمات وحشية تسبّبت في مقتل مئات الآلاف وتعطيلهم وجرحهم وتشريدهم. كما تعتمد الحكومة المعنية سياسة التجويع في محاربة الغزّيين بهدف إرغامهم على ترك بلادهم، أو على الأقل منطقتهم، وهذا فحواه تجدّد محنة الشعب الفلسطيني بنكبة أشد وأقسى من نكبة الـ48. ومع ذلك كله، يقف المجتمع الدولي عاجزاً، متفرّجاً، على ما يحصل، ولا يستطيع مجلس الأمن أن يتخذ أي قرار ملزم رادع لنتنياهو، قرار من شأنه تخفيف معاناة الغزّيين، والضغط على إسرائيل من أجل القبول بحل الدولتين الذي كان في الأساس شرطاً للموافقة على تأسيس دولة إسرائيل والاعتراف بها. فإسرائيل تحاول من خلال شعار ضرورة الانتقام من "حماس" معاقبة الشعب الفلسطيني بأسره في غزّة والضفة الغربية والتضييق عليه، وبناء المستوطنات خارج نطاق الشرعية الدولية على الأراضي الفلسطينية المُستولى عليها، والعمل على القطع مع أي فكرة تخص حل الدولتين، الحل الذي توافقت عليه دول العالم بأسرها، وترفضه حكومة نتنياهو، بل تعمل على إعدامه عبر إلغاء مقوماته الجغرافية والديموغرافية.
يؤكد الهجوم الإسرائيلي على قطر مجدّداً نزعة الغطرسة التي تهيمن على قرارات وتصرفات حكومة نتنياهو اليمنية المتطرفة
وفي السياق نفسه، تلقي تصريحات المسؤولين الإسرائيليين العدائية الرافضة المبادرة السعودية الفرنسية المشتركة بخصوص الاعتراف بالدولة الفلسطينية المزيد من الضوء على الاستراتيجية التي تعتمدها حكومة إسرائيل الحالية بغية التنصّل التام من الحق الفلسطيني، والإعلان عن عدم وجود أي شيء اسمه القضية الفلسطينية أصلاً؛ ودلالة هذا التوجّه الإسرائيلي أن الموضوع لا يقف عند "حماس"، بل يمتد ليشمل الوجود الفلسطيني بكامله أرضاً وشعباً. وإذا ما استمرّت هذه السياسة، فهذا معناه استمرارية الأزمة وتفاقمها، بل واحتمال توسعها واشتداد قسوتها بما يهدد واقع المنطقة ومستقبلها؛ وهي المنطقة المضطربة أصلاً نتيجة الظروف الداخلية والتهديدات الخارجية.
موضوع تحوير السرديات الدينية وتوظيفها في خدمة المشاريع التوسعية ليس بالأمر الجديد في منطقتنا التي تحتضن الأماكن المقدسة الخاصة بالديانات السماوية الثلاث بمذاهبها المختلفة. وحتى قبل هذه الديانات، كانت هناك معابد وأماكن مقدسة خاصة بديانات الأقوام التي سكنت في هذه المنطقة، وتلك التي عبرتها، أو تصارعت عليها. ولكن منذ أكثر من قرن تعاني منطقتنا من توترات وحروب مستمرة، تستمد الكثير من نسغها من ظاهرة الخلط بين الديني والسياسي لتحقيق مكاسب عبر التجييش والتسويغ.
من المستحيل الوصول إلى حل واقعي ممكن ينهي معاناة الشعب الفلسطيني عبر المجاملات الخاوية، والوعود المعسولة التسويفية؛ فكيف إذا كانت لغة التهديد والوعيد وإنكار وجود القضية الفلسطينية من أساسها هي السائدة المهيمنة. هذا مع معرفة الجميع بأن الأمن والاستقرار لن يتحققا في المنطقة من دون معالجة قضايا شعوبها المزمنة، هذه القضايا التي كانت حصيلة الاستراتيجيات الاستعمارية والاتفاقيات التي كانت قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها، فما دامت الحلول العادلة لقضايا المنطقة غير موجودة، ستكون هناك اضطرابات ونزاعات، وسيكون هناك تشدّد، سرعان ما يتحوّل إلى إرهاب بفعل استغلال أصحاب الأجندات مشاعر الناس ونزعاتهم العاطفية.
قطع الفلسطينيون أشواطاً كبيرة على طريق المراجعات، وقبلوا بالكثير الكثير مما كانوا يرفضونه سابقاً جملة وتفصيلاً، ومع ذلك لم يحصلوا على شيء
قطع الفلسطينيون أشواطاً كبيرة على طريق المراجعات، وقبلوا بالكثير الكثير مما كانوا يرفضونه سابقاً جملة وتفصيلاً، ومع ذلك لم يحصلوا على شيء، بل تعرّضوا ويتعرّضون للمحن المتلاحقة؛ وذلك كله بفعل اختلال التوازن في المعادلات الإقليمية والدولية، وغياب الموقف العربي المساند المؤثر، الأمر الذي يعطي انطباعاً مرعباً مفاده أن نتنياهو في مقدوره أن يفعل أي شيء من دون أي مساءلة أو محاسبة على المستويين الداخلي الإسرائيلي والدولي.
من جهة أخرى، طبّعت دول عربية عديدة مع إسرائيل، ولكثير منها علاقات مباشرة أو غير مباشرة أو تفاهمات معلنة غير معلنة معها. كما انفتحت دول الخليج على إدارة ترامب إلى أبعد الحدود، وأمدّتها بتريليونات الدولارات في هيئة مشاريع استثمارية وتنموية. ماذا كانت النتيجة؟ حرب غزّة مستمرّة، والأوضاع في لبنان وسورية واليمن والسودان وليبيا ما زالت مضطربة مفتوحة على مختلف الاحتمالات السوداوية، ودول عربية أخرى ليست بأفضل حالاً.
ليست موازين الردع العسكري في صالح الدول العربية. هذه حقيقة لا يختلف حولها عاقلان. ولكن هناك أوراقاً أخرى كثيرة يمكن استخدامها؛ منها أوراق اقتصادية ودبلوماسية وخيارات تحالفية، غير أن ذلك كله لا يمكن أن يكون فاعلاً من دون وجود موقف عربي موحد راسخ. وهذا لن يتبلور، ولن يتحقّق، في غياب شعور المواطنين في كل دولة عربية بأن الدولة دولتهم، وأن السلطة الحاكمة تحرص بحكمة وبعد نظر على حاضرهم ومستقبلهم، ومستقبل أبنائهم وأحفادهم.
دول مجلس التعاون الخليجي هي وحدها تقريباً التي تمكنت بفضل مشاريعها الوطنية التنموية من المحافظة على استقرارها المجتمعي وتوازن علاقاتها الدولية
أما أن تستقوي السلطة بقوى خارجية لتتمكن من الاستمرار في التحكّم برقاب شعبها، فهذا لم ولن يشكّل أرضية صلبة لبناء موقف قوي متماسك في مواجهة التحديات والمخاطر. ونحن إذا درسنا أوضاع الدول العربية نلاحظ أن دول مجلس التعاون الخليجي هي وحدها تقريباً التي تمكنت بفضل مشاريعها الوطنية التنموية من المحافظة على استقرارها المجتمعي وتوازن علاقاتها الدولية، وهذا ما يؤهلها لأداء دور إيجابي مؤثر في الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، والمطالبة بإنصافه عبر حل الدولتين.
ما ينقذ الدول العربية في مرحلة التحولات الكبرى التي تعيشها منطقتنا بفعل المتغيرات الدولية هو وحدتها وتماسكها. ويمكن لهذه الدول أن تستفيد في هذا المجال من تجربة دول الاتحاد الأوروبي التي تواجه اليوم تهديداً وجودياً مباشراً من خلال الحرب الروسية على أوكرانيا؛ وهي الحرب التي أثقلت كاهل الأوروبيين كثيراً بما تكلفه من أموال وأسلحة وخبرات تقدم لأوكرانيا، بالإضافة إلى الاستعدادات الباهظة الثمن التي تقوم بها كل دولة أوروبية ضمن حلف شمال الأطلسي وخارجه، تحسّباً لأي تطورات مؤلمة مستقبلاً.
كما تعاني الدول الأوروبية في الجهة المقابلة من أزمة ثقة عميقة مع إدارة ترامب التي تضع قدماً هنا وقدماً هناك، وتصدر تصريحاً في الصباح، لتناقضه بتصريح آخر في المساء؛ وذلك كله يضعف الأوروبيين الذين لم يمتلكوا بعد القدرات الاستراتيجية التي تضمن لهم مستلزمات الدفاع الذاتي؛ فهم ما زالوا بأشد الحاجة إلى الدعم والحماية الأميركيين.
وللتعامل مع هذه الوضعية المعقدة، وجد الأوروبيون أن الخيار الوحيد بالنسبة إليهم هو التضامن والتماسك، وتجاوز الخلافات أو العمل على حلها ضمن البيت الأوروبي، وإخضاع المصالح الخاصة بكل دولة لسياسات الاتحاد وتوجهاته، والقيام بما هو ممكن على أمل استقرار الأمور في واشنطن خلال سنوات حكم ترامب الباقية، أو انتظار الإدارة القادمة.
ما ينقذ الدول العربية في مرحلة التحولات الكبرى التي تعيشها منطقتنا بفعل المتغيرات الدولية وحدتها وتماسكها
الدول العربية اليوم في أمسّ الحاجة إلى التماسك والعمل المشترك الحقيقي، فهل سترتقي ومعها الدول الإسلامية بمواقفها الفعلية وخطواتها الواقعية، وليس بمجرّد الأقوال والوعود، إلى مستوى التحدّيات بعد مؤتمر القمّة في الدوحة؟
هل ستطالب هذه المجموعة الضخمة التي تشكل كتلة بشرية واقتصادية وازنة مؤثرة على المستوى الدولي بما هو مطلوب، وتعمل من أجل تحقّقه؟ هل ستتمكّن هذه الدول من وضع العالم أمام مسؤولياته، والضغط باتجاه تطبيق حل الدولتين، وتتجاوز دائرة الحديث العام العائم غير الملزم؟
الشعوب العربية والإسلامية تنتظر أجوبة هذه الأسئلة وغيرها. هل ستكون هناك أجوبة واضحة ملموسة تظهر نتائجها تباعاً على أرض الواقع وفق خريطة زمنية تحدّد أبعاد المكان ليعيش الشعب الفلسطيني كريماً آمناً مطمئناً بعد كل هذا الحرمان؟
تجارب الماضي لا تبشّر، ولكن نأمل ألّا تتكرر.
كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.