قميص متروك
(لؤي كيالي)
غادر آخر الأبناء بيت العائلة سعيداً ببيته الصغير الذي سيضمّه وعروسته الجميلة، بعد حفل الزفاف الذي حضره جمع كبير، وساد فيه الصخب، وعلت الموسيقى، ورقص العروسان محاطين بأحبّتهما. لم تصدّق الأمّ المرتبكة أن آخر العنقود، صغيرها المُدلّل، الأقرب إليها، سيرحل حقّاً. لن تتكبّد بعد الآن عناء إيقاظه في الصباحات، ولن تتذمّر من نومه الثقيل، ولن تفزع إذا تأخّر في الوصول إلى عمله، وفوّت وجبة الإفطار، لن تنهمك يومياً في تحضير ثيابه، وإعداد أصناف الأطعمة التي يُحبّ، واستقبال رفاقه المشاغبين، الذين يُحبّون أطباقها.
أدركت في لحظة أن الصغير لم يعد صغيراً، نبتت أجنحته في حين غفلةٍ منها، وها هو يتأهّب للتحليق بعيداً. دارت دمعة أوشكت أن تغلبها، وهي ترقب دخوله القاعة ببدلة "سموكن" سوداء، وحذاء لامع، وشعر مصفّف، وابتسامة كبيرة، متأبّطاً ذراع عروسته، التي ارتبط بها بعد قصّة حُبّ عذبة لم تعترضها أيُّ عقبات. استغرق عثورهما على شقّة ملائمة وقتاً، لكنّهما نجحا في نهاية الأمر، وتعاونا في تأثيثها، وقد وضعت العروس لمساتها الجمالية في الزوايا.
لم يستشر العريس (كما هي عادته) أمّه في أي تفصيل متعلّق بمنزله الجديد، وتوقّف منذ إعلان خطوبته عن مشاركتها الأسرار الصغيرة، ما كان يثير غيرةَ إخوته، الذين كثيراً ما اتهموها بالتمييز في المعاملة، وبأنها تفرط في دلاله، محذّرين إياها من إفساده، فتضحك قائلةً: "الصغير حتى يكبر"، غير منكرة التهمة. بدأت تلاحظ تباعده التدريجي عنها، وانهماكه الدائم بشؤون الحبيبة وانشغاله عن أمّه، التي كرّست وقتها كلّه للاعتناء به وتلبية طلباته، حاولت أن تتقبّل هذا التحوّل باعتباره سنّة الحياة، وطبيعة الأمور، وظلّت تكرّر مقولة جبران خليل جبران: "أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة"، غير أن الحزن استقرّ في نفسها عميقاً، واستولى عليها إحساس عميق بالخسارة والفقدان.
تولّدت لديها (رغماً عنها) ضغينةٌ خفيةٌ غير مبرّرةٍ تجاه العروس، التي لم تتصرّف بسوء، سوى أنها كانت سعيدةً برَجُلها، مُقبلةً على حياتها الجديدة بكلّ حماسة واندفاع وأمل. لم يكن لها بسبب صغر سنّها أن تدرك ما يعتمل في صدر حماتها من مشاعر مختلطة، يمتزج فيها الفرح والحزن والخوف والارتباك، حالة طبيعية مفهومة، تختبرها أي أمّ يغادرها صغيرها، حتى لو إلى بيت مجاور. غالبت مشاعر العدائية تجاه العروس، لأنها كانت واثقةً بأن الفتاة خياراً مناسباً من حيث الأخلاق والشكل والحضور اللطيف، وبأنها ستُسعِد ابنها، وذلك أقصى ما تطمح إليه.
انتهت حفلة الزفاف الصاخبة. تقبّل العروسان التهاني من المدعوين، الذين غادروا تباعاً. تقدم العريس نحو أمّه. قبّل يدها ورأسها واحتضنها هامساً: "ماما! ستظلّين حبيبتي الأغلى، وسأزورك يومياً، وسنتناول الغداء كلّ جمعة في بيتك". لم تشأ أن تفسد عليه فرحته. حبست دمعتها وترضّت عليه، واحتضنت العروس بعد أن ألبستها عِقداً من الذهب، قائلةً: "ديري بالك عليه، هادا الغالي". لوّحت له يبتعد، وقد رسمت ابتسامةً كبيرة في وجهها. خلت القاعة، وأطفأت الأنوار، ورحل الجميع.
قادت سيّارتها منهكةً إلى البيت الفارغ المظلم الموحش، تأمّلت الصور المعلّقة على الجدران، توقّفت عند صورة زوجها الراحل، خيّل إليها أن ثمّة ابتسامة ترتسم في وجهه. توجهت إلى غرفتها، ارتدت منامتها. ذهبت إلى غرفة ابنها التي أصبحت فارغةً، باستثناء قميص كان قد نسيه، حين أخذ ثيابه وعلّقها مرتّبة في خزانة بيته الجديد. احتضنت القميص المتروك، وأخذت تشمّه. دسّت جسدها في فراش صغيرها وهي تضمّ القميص إلى صدرها، ثمّ أجهشت طويلاً بالبكاء.