قمح المصريين بين حوافز التوريد ولغة الوعيد

قمح المصريين بين حوافز التوريد ولغة الوعيد

24 مارس 2022

مصريتان في موسم حصاد القمح في قرية شما بمحافظة المنوفية (6/6/2017/فرانس برس)

+ الخط -

مع اشتداد أزمة الغذاء العالمية التي تعاني منها مصر بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، بسبب اعتمادها المفرط على واردات الحبوب والزيوت من الخارج، وسوء السياسات التي قادت إلى تركز شركائها واحتكار عدد محدود من الشركات عمليات التوريد، ما يعني ضعفا في القدرة على السيطرة على الاضطرابات في أسعار السلع، صدرت قرارات متضاربة تخص الزراعة والمزارعين، ما بين حافز استثنائي هزيل لتوريد القمح وتهديد بعقوبات قاسية للتعدّي على الأراضي الزراعية.

يهلل الإعلام والرئاسة والحكومة منذ أيام لحافز استثنائي، أقرّته الرئاسة للمزارعين بقيمة 65 جنيها للإردبّ (150 كيلوغراما) من أجل تشجيع الفلاحين على زيادة توريد القمح وصولا إلى ستة ملايين طن مستهدفة حكوميا. الحقيقة أن الزيادة التي أقرّتها الحكومة أبعد ما تكون عن تشجيع المزارعين لزيادة توريد القمح للشون الحكومية، ولن تحقق الزيادة المرجوة حكوميا في التوريد، خصوصا في ظل توجهات الحكومة المبيّتة إلى رفع الدعم تماما عن الخبز والمواد البترولية، وخفضها الفج مخصّصات الدعم التمويني ودعم الزراعة على مدار السنوات الماضية، وارتفاع أسعار الخبز الحر بنسبة مائة بالمائة منذ بدء الأزمة الروسية الأوكرانية، وفي ضوء الارتفاع الكبير لأسعار الأسمدة وكلفة الري ومستلزمات الإنتاج الأخرى.

قرارات ظاهرها الخوف على الرقعة الزراعية ومحاولة حمايتها، وباطنها معاقبة المزارعين المصريين بعقوباتٍ قاسية جدا

أيضا، وحتى بعد الزيادة الجديدة، متوسط سعر الطن الذي تجمعه الحكومة من المزارعين لن يزيد، في أفضل حالاته، على 300 دولار للطن، فيما ستستورده هي والشركات الخاصة المستوردة من الخارج بحوالي 450 دولارا للطن على الأقل من المصادر الأوروبية، وفقا للأسعار الجديدة، أي أنها تدعم المزارع الأوروبي أكثر من دعمها المزارع المصري.

وفي وقتٍ تحتاج فيه مصر المزارعين بشدّة، أطلت علينا الحكومة المصرية في الأسبوعين الماضيين بقراراتٍ ظاهرها الخوف على الرقعة الزراعية ومحاولة حمايتها، وباطنها معاقبة المزارعين المصريين بعقوباتٍ قاسية جدا في تغليظٍ غير مسبوق لعقوبات قانون الزراعة، في ما يخص التعدّي بالبناء على الأراضي الزراعية، وتهديد المعتدين بالحذف من بطاقات التموين.

لا ينكر أحد الحاجة الماسّة لمصر للحفاظ على كل شبر من واديها النيلي الضيق ودلتاها المكتظة بالسكان، وبالذات على الأراضي الزراعية المحدودة، لكن الحكومة التي تهدّد المواطنين بغرامات ما بين خمسمائة ألف جنيه وعشرة ملايين جنيه غرامة للتعدّي على الأراضي الزراعية بالبناء، واعتبار ذلك جريمة مخلّة بالشرف وغرامة قد تصل إلى مليون جنيه للمقاول أو المهندس المشارك في المخالفة، وفقا للتعديل الذي تقترحه لقانون الزراعة، لا تقول لنا شيئا عن حقّ ساكني الريف في السكن، وهم لا يزالون غالبية سكان البلاد بنسبة تقترب من 60%.

هذه العقوبات قاسية، سواء من حيث لهجة المسؤولين والإعلاميين في ترويجها، أو من حيث آثارها على حياة أكثر من 60 مليون إنسان يقطنون الريف المصري، والذي يكاد يكون سقط سهوا أو عمدا من خطط التنمية، على الرغم من حضوره في خطاباتهم عبر العقود الماضية.

الزيادة التي أقرّتها الحكومة أبعد ما تكون عن تشجيع المزارعين لزيادة توريد القمح للشون الحكومية، ولن تحقق الزيادة المرجوة حكوميا في التوريد

لا يجيب المسؤولون المتوعدون للمخالفين عن أسئلة التنمية الحقيقية المرتبطة بتحقيق نموٍّ كاف في القطاعات الصناعية والزراعية والخدمية في البلد بشكل متوازن، يستوعب هؤلاء الناس وفائض السكان الموجود في الريف، والذي يحتاج مساكن، سواء في الريف أو المدينة، تكون مناسبة لدخله وقريبة من مكان عمله. بينما يكاد ما تقوم به الحكومة من مشروعات كبرى في قطاع الإسكان يكون تجارةً بحتة، بل ومساهمة أكبر في تضخم أسعار العقارات، حيث تطرح الوحدات في المدن الجديدة بأسعار أعلى بكثير من التي يطرحها القطاع الخاص الرسمي وغير الرسمي في المدن الحالية في ربوع مصر. وتشير اشتراطاتها البنكية القاسية إلى أنها عملية تجارية بحتة، لا تستبعد فقط سكان الريف، بل أيضا الملايين من أصحاب الدخول المنخفضة وغير المنتظمة، وغير القادرين على تجميع مقدّمات الحجز ودفعات الاستلام التي تضاعفت بنسب أكبر بكثير من التضخم الحاصل في القطاع السكني.

وبسبب سياسات حكومية خاطئة، استهدفت التوسّع في إنتاج إسكان متوسط وفوق متوسط وعمليات إعادة تسعير للأراضي بشكل مبالغ فيه للمواطنين، وأقل من السعر المعقول للمستثمرين، أكثر من استهدافها لضبط التخطيط العمراني للمدن والقرى وأسعار السكن الاجتماعي، ما ساهم في تعزيز ظواهر ترييف المدينة وتمدين مشوّه للريف. وفي ظل أن القطاع الصناعي غير قادر على أن يستوعب فائض العمالة الريفية من خلال إنتاج وظائف جيدة بأجور جيدة، فإن هؤلاء يسافرون إلى الخارج، ويصبح الاستثمار الأفضل بالنسبة لهم بناء مساكن مستقلة عن العائلة، وتوسع أفقي على النمط الخليجي أو الاستثمار في هوامش المدن.

لا يمكن فصل هذا النهج عن السياسات العامة المرتبطة بمحاولة جمع أكبر قدر ممكن من الأموال من المواطنين، سواء عبر قانون التصالح في مخالفات البناء أو قوانين الشهر العقاري والتوثيق التي طرحت العام الماضي، وتأجل تطبيقها بسبب ما أثارته من احتجاجات من المواطنين، وعدم قدرة على التنفيذ، على الرغم من التهديد باستخدام الجيش بديلا عن المحليات وأجهزة وزارة الداخلية في التنفيذ، وهو ما أدّى إلى طرح هذه القوانين للتعديل مرة أخرى أخيرا. بل أدّت التعديلات على قوانين البناء، وتوجيهات الرئاسة بوقف البناء في البلاد عشر سنوات، مع تعهد شفهي من الرئاسة بتوفير الوحدات بحيث يتعثر فيها المشاة، بالإضافة إلى تغليظ العقوبات على مثل هذه الأنشطة، أدّى ذلك كله إلى تعثر كبير في قطاع البناء والتشييد الذي اعتبرته الحكومات المتعاقبة الرافعة الأساسية للنمو الاقتصادي عبر العقود الثلاثة الماضية.

الحكومة التي تعاقب المزارعين على البناء على الأراضي الزراعية تعدّت ببناء مدينة أخميم الجديدة على أراض زراعية

قد تخيف العقوبات المطروحة حاليا بعض المواطنين من التعدّيات، وخصوصا مع الغرامات المالية الكبيرة في القانون الجديد، لكن استهداف تقليص الدعم المقلص أصلا وتحويل الأمر إلى جريمة مخلّة بالشرف تؤدّي حتما إلى الفصل من الوظائف العامة، بناءً على بنائهم على أراضيه الزراعية، فضلا عن كونه أمرا غير دستوري، إذ يتعارض مع القوانين التي تحمي الحق في الملكية الخاصة، والتصرّف فيها بحرية، فهو مجحف بشكل كبير جدا، ويحتاج إعادة النظر في فلسفته وتعديلات القوانين المرتبطة به. ففي ظل القوانين المغلظة منذ السبعينيات على البناء على الأراضي الزراعية، لم تستطع الدولة وقف هذا البناء، لأن هناك حاجة موضوعية حقيقية للمصريين في التوسّع، بل على العكس كانت هذه القوانين وأدوات تنفيذها البيروقراطية المتكلسة أبوابا أكبر للفساد والمحسوبية، خصوصا في ظل القيود والغرامات المجحفة على التوسع الرأسي غير المعنية حقيقة بالتخطيط العمراني أو بسلامة المباني وأسسها الهندسية، بقدر ما هي معنية بتحصيل الغرامات وإثبات قدرة البيروقراطية على التحكّم بالمواطنين وتكديرهم.

الغريب أن الحكومة نفسها التي تعاقب المزارعين على البناء على الأراضي الزراعية تعدّت قبل سنوات ببناء مدينة أخميم الجديدة في صعيد مصر على أراض زراعية، كان المواطنون قد استصلحوها بجهود مضنيةٍ عبر عقود في ما عرف بقضية قرية الكولا في سوهاج، والتي احتج فيها المواطنون بكل الطرق القانونية على هذا الفعل. ومع ذلك لم يستمع إليهم أحد، وبالتالي فإن أية مواجهة جدّية لظاهرة التعدّي على الأراضي لا بد أن تشمل المشروعات الاستثمارية وملكيات الدولة، حتى لا يصبح الأمر حلالا للدولة وحراما على المصريين.

يحتاج التفكير في ملف التعدّيات على الأراضي الزراعية إلى نظرة شاملة تقضي على الجذور وليس الأعراض، وإلى الاعتراف بحق الريف وساكنيه في السكن الآدمي والمرافق والخدمات العامة من صحة وتعليم ونظافة ومواصلات، وليس اعتباره منحة رئاسية، على غرار برامج مجتزأة، مثل حياة كريمة وغيرها على أهميتها، كما يقتضي أيضا استخدام الدولة اللهجة نفسها ضد الشركات الخليجية غير الملتزمة بالمقننات المائية والتركيبات المحصولية بمشروعات قومية زراعية عديدة منذ عقود من دون أن تخضع لأية عقوبات.