قضاء غير مؤهّل يتصدّر مشهد العدالة في سورية
في خطوةٍ أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط الحقوقية والسياسية، وبين المتّهمين بمسار العدالة الانتقالية في سورية، أصدرا، وزارة العدل السورية والنائب العام للجمهورية، بيانَين منفصلَين يعلنان فيهما بدء دراسة ملفّات الموقوفين المتّهمين بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في سورية، وبدء محاكمة عدة موقوفين، منهم عاطف نجيب، وأحمد بدر حسّون، ومحمّد الشّعار، وإبراهيم الحويجة. ورغم ما يحمله هذا الإعلان من دلالة على وجود إرادة (وإنْ متأخّرة) لمحاسبة بعض المسؤولين عن الجرائم الجسيمة، إلا أن هذه الخطوة تثير جملةً من الإشكالات القانونية والسياسية التي لا يمكن إغفالها، أبرزها خرق واضح للإعلان الدستوري المؤقّت، وتعدٍّ خطير على صلاحيات الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية.
في 13 مارس/ آذار 2025، صدر الإعلان الدستوري المؤقّت ليكون الإطار القانوني الناظم للمرحلة الانتقالية في سورية، ونصّت المادة 49 منه على أن اختصاص العدالة الانتقالية هو اختصاص حصري للهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية. هذه الهيئة التي شُكِّلت بموجب مرسوم جمهوري في 17 مايو/ أيار 2025، بوصفها هيئةً مستقلّةً عن جميع السلطات، بما فيها السلطة القضائية. وقد مُنحت صلاحياتٍ واضحة تشمل النظر في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتحديد آليات المحاسبة والمصالحة الوطنية، وكشف الحقيقة، وإصلاح مؤسّسات الدولة، وفي مقدّمها الجهاز القضائي.
غير أن إعلان وزارة العدل والنائب العام البدء بدراسة ملفّات المتّهمين من دون إشراف مباشر أو تنسيق مسبق مع الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية يشكّل مخالفةً دستوريةً صريحة. ويمثّل هذا التجاوز تقويضاً لروح الإعلان الدستوري، وتحويلاً للمسار الانتقالي من مشروع قانوني إلى مسرح سياسي يخضع لتوازنات لحظية وأجندات آنية. المفارقة المحزنة أنّ المحاكمات المشار إليها ستُجرى في إطار القضاء السوري القائم حالياً، وهو قضاء يُعاني من ترهّل بنيوي وفساد مزمن، وعدم استقلالية، بل إن مكوّناتٍ كثيرة منه متورّطة إمّا بصمت أو مشاركة في انتهاكات سابقة. توكيل هذا القضاء لمحاسبة شخصيات ذات نفوذ سابق، من دون إصلاح شامل للجهاز القضائي، يُعدّ بمثابة إضفاء شرعية شكلية على منظومة فاقدة للثقة. فالعدالة الانتقالية لا تُبنى إلا من خلال مؤسّسات جديدة تمتلك الأهلية القانونية والأخلاقية لتفعيل مبادئها. أمّا تكليف المؤسّسات القديمة، التي كانت جزءاً من المشكلة، بأدوار المحاسبة، فهو كمن يعهد للجلّاد بالتحقيق في سجلّه الإجرامي.
لا يمكن للمحاسبة أن تتحقّق ما لم تتوافر شروط بنيوية، منها تعديل قانون العقوبات وقانون أصول المحاكمات الجزائية
معلومٌ أن القانون السوري الحالي لا يشمل نصوصاً قانونيةً تُعرِّف الجرائم الدولية الخطيرة وتجرّمها، مثل جرائم الحرب، والجرائم ضدّ الإنسانية، أو الإبادة الجماعية، كما وردت في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، بل لا يتضمّن قانون العقوبات السوري أيّ صياغة دقيقة لهذه الجرائم، ولا يوفّر عقوبات متناسبة معها، ولا يُراعي طبيعتها المنهجية أو الجماعية. وبالتالي، فإن إجراء أيّ محاكمة لمرتكبي هذه الجرائم من دون إجراء تعديل تشريعي شامل، يُدخل هذه الجرائم في المنظومة القانونية السورية، يعني أننا أمام محاكمات فارغة المضمون قانونياً. هذا الخلل لا يُعرّض نتائج المحاكمات للبطلان فحسب، بل يُكرّس ثقافة الإفلات من العقاب، ويضع الضحايا مجدّداً أمام واقع قانوني لا يعترف بحقوقهم، ولا يمنحهم أدوات إنصاف فعّالة.
ما يجعل العدالة الانتقالية ممكنةً وفعّالةً استقلاليتها ومصداقيتها، لا سيّما لدى الضحايا والمجتمع المدني. والهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية يفترض أنها تجسيد قانوني لهذه الاستقلالية، وهي الجهة التي وُجِدت لتقود العملية بما يضمن الحياد والموضوعية وعدم التوظيف السياسي أو الانتقائي للمحاسبة. أمّا أن تتجاوز السلطة هذه الهيئة، وتباشر الإجراءات الحسّاسة بشكل منفرد، فذلك يُرسّخ رسالة سلبية مؤدّاها أن العدالة ليست هدفاً، بل أداةً. هذه الرسالة لا تهدّد شرعية الهيئة فحسب، بل تُجهض مشروع العدالة من أساسه، وتُساهم في تعميق الفجوة بين المجتمع والسلطة، وخصوصاً الضحايا الذين يحتاجون إلى مسار شفّاف يُنصفهم، لا يُهمّشهم.
من دون مؤسّسات جديدة ونصوص قانونية واضحة أيُّ محاسبة في سورية ستكون مبتورة
وحتى في حال توافرت النيات الصادقة، لا يمكن للمحاسبة أن تتحقّق ما لم تتوافر شروط بنيوية، منها تعديل قانون العقوبات وقانون أصول المحاكمات الجزائية لإدراج نصوص خاصّة بالجرائم الدولية؛ إنشاء غرف قضائية ونيابات تتبع للهيئة الوطنية؛ تدريب وتأهيل الكوادر القضائية على المعايير الدولية للمحاكمات؛ إشراك منظّمات حقوق الإنسان، وجمعيات الضحايا، والمبادرات المدنية لضمان الشفافية والتكامل. من دون هذه الشروط، فإن أيّ محاسبة ستكون مبتورةً، غير مؤهّلة لتحقيق النتائج المرجوة، بل قد تُستخدم لتصفية حسابات سياسية أو لإنتاج براءة مصطنعة لمرتكبي الجرائم.
قد تبدو تصريحات وزارة العدل والنائب العام، من حيث الشكل، بداية تحريك للملفّ، لكنّها من حيث المضمون تشكّل تحدّياً حقيقياً لجوهر العدالة الانتقالية. هذه العدالة لا تقوم على مؤسّسات فاقدة للمصداقية، ولا تُحقَّق عبر إجراءات مفاجئة تُقصي الهيئة المختصّة بالعدالة الانتقالية، بل تحتاج إلى مسار طويل الأمد يقوم على القانون، والثقة، والمساءلة الشفافة. وإن استمرّت التدخّلات غير الدستورية، وتهميش الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية، وتوظيف مؤسّسات غير مُؤهَّلة، فإن العدالة ستكون عنواناً بلا أيّ مضمون، وسيُنسى الضحايا، وسيدور البلد في الحلقة نفسها من العنف والإفلات من العقاب... تتطلّب المرحلة الانتقالية محاكم جديدةً وقضاةً مؤهّلين، ونصوصاً قانونيةً مستحدثةً، وإرادةً سياسيةً صادقة. العدالة ليست ترفاً، بل حجر أساس في بناء وطن جديد يستند إلى قيم الكرامة والمساءلة والمصالحة.