قرّاء الكتب الغبية

قرّاء الكتب الغبية

07 ابريل 2022

(حسين ماضي)

+ الخط -

يقول جورج برنارد شو: "الغبي إذا قرأ كثيراً من الكتب الغبية سيتحول إلى غبي مزعج وخطير جداً، لأنّه سيصبح غبياً واثقاً من نفسه، وهنا الكارثة"... والكارثة التي تحدّث عنها الكاتب الشهير واقعة فعلاً، ونراها متجلّية في حالاتٍ كثيرة، خصوصاً في زمن وسائل التواصل الاجتماعي الذي سهّل على كثيرين التعبير عن أفكارهم الكارثية بسرعة ويسر ومجانية.

يبدو السؤال عن ماهية الكتب الغبية مهما، فكيف يمكن أن يوصف كتابٌ بأنّه غبي، ما دمنا مؤمنين بضرورة تقبّل كلّ الآراء، مهما كانت شاذّة في سياقاتها التاريخية والاجتماعية والثقافية، ولأصحابها الحقّ في نشرها وعرضها على القرّاء؟ لا يمكن أنّ برنارد شو يقصد هذا النوع المختلف عن سياقاته عندما تحدّث عن الكتب الغبية، لكنّه يقصد تلك الكتب التي تحتوي على آراء أصحابها غير القابلة، من وجهة نظرهم، للشكّ، فكلّ من يظن نفسه على حق دائماً ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن ليس لأيٍّ كان أن يشكك بما يراه أو يكتبه أو ينشره، إنّما هو كاتب غبي، ولا ينتُج عنه سوى الغباء في هيئة آراء أو أفكار أو كتب.

الأصل في المعرفة هو الشك، فالحقيقة غاية تكاد تكون مستحيلةً في ما يتداوله البشر من آراء أو أفكار. ولهذا كلما زادت معرفة المرء بالحياة ارتفعت نسبة الشكّ لديه بهذه المعرفة وبهذه الحياة، وبالتالي قلّت نسبة ثقته بنفسه وبمعرفته وبالحياة أيضاً. لكنّ الحياة بليت بأولئك الذين يعتقدون أنهم وحدهم القادرون على التفكير، وأنّهم وحدهم المهيأون للوصول إلى غايات الخلق، وأنهم وحدهم المالكون مفاتيح خزائن الحقيقة. فلا يكتب رأيا عن مسألة ما إلا وهو الرأي النهائي في تلك المسألة، وبالتالي هو يلغي، منذ بدء أي نقاش محتمل، أي رأي آخر، حتى قبل اختباره أو محاولته التفكير به، لأنه يرى أن ذلك مجرّد تضييع لوقته الثمين ما دام قد وصل إلى غاية الأمر وانتهى.

ولسوء الحظ، هؤلاء الكتاب الأغبياء المحتكرون ما يعتبرونها الحقائق كثيرون جداً، إلى درجة أنّ غيرهم من الذين ينتهجون الشك بأنفسهم قبل غيرهم نادرون، ولا يكاد أحد يأخذهم على مأخذ الجد، ذلك أنّ مجتمعاتنا خضعت للرؤية الجمعية التي تصدّق ما يروجه المرء عن نفسه، فكلما بدا المرء واثقاً من نفسه، ومن معلوماته، عاملاً على إلغاء غيره بكلّ الطرق والوسائل، أصبح في نظر هذه المجتمعات مثقفاً لا يشقّ له غبار، فالجهل يتناسل بعضه من بعضه الآخر، ولا ينتج عنه سوى ترويج الأفكار الغبية وأصحابها.

أتابع، على سبيل المثال، حوارات في منصّة كلوب هاوس عن قضايا ثقافية وفكرية مهمة جداً. ومؤسفٌ أنّ من يشارك في مثل هذه الحوارات لا يكاد يتحمّل أيّ رأي يناقض رأيه، بل إنّه لا يسمع ما يقال إلا إن كان صدى لأقواله هو. ويبلغ الأمر بمثل هذه النماذج أنها تلجأ إلى كل الوسائل الممكنة في سياق النقاشات ليس لإقناع الآخرين بما تقول مثلا، لكن لإجبارهم على ذلك، تحت وطأة التنكيل والتنمّر والسباب والشتائم وغيرها من أدوات.

ولا أدري ما الذي يمكن أن تسفر عنه مثل تلك النقاشات، لو أنها جرت وجها لوجه، ما دام المشاركون فيها من تلك النوعية الخطيرة التي تحدّث عنها جورج برنارد شو، فهؤلاء يحلو لهم أن يقدّموا أنفسهم مثقفين نخبويين ثائرين على أفكار المجتمع البالية، يحفظون بضع مقولات وعناوين كتب ومصطلحات أجنبية يحرصون على تردادها، ليؤكدوا على صورتهم بأعين العامة مثقفين واثقين من أنفسهم، ولا يعرفون للشك طريقاً... ويلٌ لنا فعلاً من قرّاء الكتب الغبية هؤلاء!

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.