قتلُ القتيل

قتلُ القتيل

29 اغسطس 2021

(محمد إسماعيل)

+ الخط -

متى يصبح العدوّ إنسانًا؟ عندما يقرّر الانسحاب من أرض المعركة. آنذاك تنقلب المواجهة رأسًا على عقب، تنكّس البنادق، ويتوقّف الرصاص، ويسمح للخصم بالمغادرة، ولا بأس أن تساعده في جمع متعلّقاته وإخلاء قتلاه وجرحاه؛ لأن شروط الحرب تغيّرت، وتحوّل العدو من هدفٍ لانتزاع الحياة منه إلى هدف للحفاظ على حياته.
على هذا النحو، تعلّمنا أخلاق الفرسان: ألّا تطعن عدوّك في ظهره إن أداره لك، بل دعه ينسحب بسلام، واترك له بقايا من هيبته التي مرّغتها الهزيمة، فهو، في آخر المطاف، إنسان يستحقّ الرحمة عندما يتخلّى عن غطرسته.
لم يقل هذه العبارات أفلاطون صاحب المدينة الفاضلة، بل قاله فرسانٌ منتصرون على مرّ الزمان، وتحدّثت به الأديان، غير أن "داعش" التي ابتكرت دينًا مخالفًا لكل الشرائع تأبى إلا أن تبرز وجهها القبيح في لحظات النصر، لتفسد كلّ شيء. فعلت ذلك في نيويورك، عندما كان الشعب الأفغاني يحتفل بتحرير أرضه من الغزاة، فارتأت "القاعدة" التي تناسل من وحشيتها تنظيم داعش لاحقًا أن تقتل 2977 مدنيا أميركيَّا، وتصيب أكثر من ستة آلاف آخرين بتفجيرات نيويورك في 11 سبتمبر/ أيلول 2001. وفعلت في العراق عندما حوّلت بوصلة مقاومة الغازي الأميركي إلى حرب طائفية ضدّ سائر الملل الأخرى، فارتكبت أبشع المجازر ضدّ الجميع؛ شيعة وأيزيديين ومسيحيين، بل استهدفت كل من ينتقد وحشيتها من الطائفة السنية، ففقدت المقاومة التعاطف الشعبي معها، وأصبح الاحتلال ملجأ الهاربين من ظلم ذوي القربى.
وفعلتها في سورية، عندما عسكرت الثورة الشعبية، وحوّلتها من تظاهراتٍ تستقطب تعاطف العالم إلى احتفالات لجزّ الرؤوس، بمشاركة أضرابها من أصحاب اللحى المريبة الذين تقاطروا من أربع جهات الأرض، بحجة نصرة الشعب السوري ضدّ طاغيته، وتناسوا طغاتهم، فاختلط الحابل بالنابل، وأوصلوا بعض الشعب إلى مرحلة الندم على عهد الطاغية الذي خرجوا عليه، وآثروا القبول به والهتاف بحياته على قاعدة "أهون الأمرّين".
وها نحن أمام الطبعة، غير الأخيرة بالتأكيد، من ممارسات "الدعشنة" الجديدة، مسرحها مطار كابول، ومشاهدوها عالم عربي وإسلامي وأمميّ رأى في "كركبة" المحتلّ، وهو يغادر أرض أفعانستان مذمومًا مدحورًا، انتصارًا لكل الشعوب المبتلاة بالغزو والهيمنة والغطرسة الأميركية. فلماذا أبت "داعش" إلا أن تفسد هذه البهجة العظيمة، عندما قرّرت أن تمارس واحدة من أفعالها الوحشية ضدّ جنود مندحرين، يجمعون هزيمتهم في حقائبهم ليرحلوا عن بلاد استباحوها عشرين عامًا؟ ألم يولّ الخصم الأدبار، وينكّس سلاحه ويدير ظهره إيذانًا بترك ساحة المعركة، فلماذا يُطعن من الخلف؟ أليست خسّة أن تقتل منسحبًا ألقى سلاحه، أو بالأحرى أن تقتل "قتيلًا" في كرامته وغروره؟ 
أيّ "انتصار" يبحث عنه انتحاريو "داعش" عندما يفسدون انتصارات الآخرين الذين كسبوا تعاطف العالم. ألا يشعرون بأنهم يفجّرون بهذا الفعل صورة المقاوم الذي مرّغ أنف المحتل بالوحل، وأنهم يمنحون احتلاله السابق شرعيةً متأخرةً لم يستطع الحصول عليها عشرين عامًا؟ ثم إن من شأن هذا الفعل الشنيع أن يخدش صورة انتصار غزّة في عيون العالم الغربي الذي بدأ يشهد تحولات في نظرته إلى إسرائيل بوصفها محتلًّا عنصريا، فالغرب يميل دائمًا إلى التعميم، كأن يقول: "كلّ المسلمين متوحشون". 
أخيرًا، ربّ قائل إن أسلوب الطعن من الخلف هو من شيم العقيدة العسكرية الأميركية نفسها، فقد اعتادت إيقاع أشد أنواع الأذى بالخصم المدحور، على غرار ما فعلته في مجزرتها بحق الجيش العراقي المنسحب من الكويت سنة 1991، فحولّت الطريق الممتد من البصرة إلى بغداد طريقًا للموت، كما أطلق عليه الإعلام آنذاك، وعلى أميركا، من ثمّ، أن تتجرّع من الكأس التي أذاقت الآخرين مرارتها، غير أن هذا القول مردودٌ على من يتشدّق به، وأترك للمهاتما غاندي وحده أن يجيب: "لا نكسب معاركنا بمقدار ما نقتل من خصومنا، بل بمقدار ما نقتل في نفوسنا الرغبة بالقتل".

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.