قبل المؤتمر الوطني الفلسطيني
صحيحٌ كل الصحّة أن البيانيْن اللذين شنّعتا فيهما، مركزية حركة فتح ورئاسة المجلس الوطني الفلسطيني، على المشاركين في المؤتمر الوطني الفلسطيني أفاداهم كثيراً، فالفقر الفادح في مخيّلات كاتبيهما، عندما يلوذون بلغة كاريكاتيرية تصلُح للفكاهة في الثرثرات، منح تلك الرئاسة وأولئك الحركيين صورةً عنهم، متوتّرين ومرتعشين، يخافون من ضياع شيءٍ مسروقٍ بين أيديهم، وأعطى المؤتمِرين في الدوحة صورةً عنهم، ناساً أصحاب تأثير، لهم فاعليّتهم، في وسعهم أن يُقلِقوا. استخدم البيانان لغةً تنتسب إلى إذاعات سبعينيّات البعثيْن، العراقي والسوري، وستينيّات عبد الناصر و"الرجعيات" العربية. يحكي بيان رئيس المجلس الوطني الفلسطيني، روحي فتّوح، عن "أجنداتٍ خارجيةٍ" بـ"أدواتٍ فلسطينية"، وعن "تحالفاتٍ مشبوهة". أما الهيئة القيادية في "فتح" فجاءت على "محاولاتٍ مشبوهة"، تقوم بها "مجموعاتٌ ضالّة" تحاول "إعادة عقارب الزمن إلى الوراء"، يتقاطع عملها في "هذه المرحلة المصيرية مع مخطّط تصفية القضية الفلسطينية". ... وحسناً صنعت اللجنة التحضيرية للمؤتمر أنها وضعت بيان رئاسة المجلس الوطني في صفحة المؤتمر، تحدّيا منها أن تبادر هذه إلى عمل ما جاءت عليه بشأن إصلاح منظمّة التحرير. ومن المعيب أن تنحدر لغة الخلاف والاختلاف إلى التجريح في وطنيّة نخبةٍ عريضةٍ من الشعب الفلسطيني، تضمّ مناضلين وأسرى سابقين ومثقفين وناشطين من كل تنويعات الصفّ الوطني الديمقراطي الفلسطيني، فكأن كل قائلٍ باسترداد المنظمّة من مواتها تابعٌ لعواصم ذات أجنداتٍ، وكأن كل من ينادي بوحدة الفلسطينيين وصوْن مؤسّسيّة عملهم، للمضي إلى تحقيق المشروع الوطني، يقفز عن بطولات الشعب وتضحياته، وينزع عن المنظّمة تمثيلها هذا الشعب. من أين يلملم هؤلاء كلّ سوء الظن هذا فيهم؟ من أين تأتّى لهم كل هذا العُظام في شخوصهم، ليظنّوا أنفسَهم ناطقين باسم الشعب، وممثلين عنه، وأصحاب منظمّة التحرير وحدهم.
الإفادة الأهم التي يوفّرها جنون هؤلاء، والوهم الذي يرفلون فيه، أن تحرير منظمّة التحرير مهمّةٌ وطنية عليا، وأن البادرة الشجاعة، وذات الاستقلالية (ليقُل من يشاء ما يشاء ومتى شاء عن استضافة الدوحة المؤتمر)، ضرورة قصوى، من بالغ الوجوب أن تنجح. والنجاح المتوخّى ممكن، وأدرى بلوازمه من صاحب هذه السطور الأصدقاء والزملاء في اللجنة التحضيرية ولجنة المتابعة. ولعلّ أول ما تحتّمه النجاة من إخفاق المحاولة أن يذهب المُؤتمرون إلى الواقعيِّ والممكن، ولا يضيّعوا الوقت في استرسالٍ في البديهيات المسلّم بها، بشأن وجوب الوحدة ومخاطر مشاريع تصفية القضية الفلسطينية، فينكبّ النقاشُ في المؤتمر على الصيغ العملية، والمقدورُ أن يسلكها المؤتمرون، للوصول إلى تحقّق المُراد والمُبتغى، فليس مستحيلاً أن تُستعاد منظمّة التحرير ممن ينصّبون أنفسهم أوصياء عليها، فيما هم مرتاحون لمواتها، وقلة حيلتها، لكنه ليس أمراً من اليُسر بمكانٍ أن يصير في متناول قبضة اليد. والمأمول أن تتركّز نقاشاتُ الجلسات الثلاث، التي تعقب الافتتاح اليوم، على المُمكنات العملية لتحقيق هذا الهدف، وعلى آلياتٍ في الوُسع التوصية بها. وعلى أهميّة ما ستقدّمه لجان المؤتمر الستّ، إلا أن القيمة كبيرة، وخاصّة، وثقيلة الاعتبار، لما ستنتهي إليه لجنة إعادة بناء منظمّة التحرير. وسيكون نافلاً كل نقاشٍ في توصيفات اللحظة السياسية التي يقيم فيها الفلسطينيون في الوطن والشتات، وإن يلزم إعادة التأكيد، للمرّة المليون، على الثوابت الوطنية، من دون جنوحٍ إلى استعراضاتٍ لغويةٍ ومكابرات معهودة. وإذ تختصّ لجنةٌ بدعم الصمود، فمربط أمرِها الكيفيّات العملية مع ربطها بالإمكانات والمُمكنات، لتثمير كلِّ جهدٍ في هذا المسعى العظيم الشأن.
المنتظرُ كثيرٌ من مؤتمرٍ وطنيٍّ فلسطيني، لا ينسب لنفسه أنه يشيل الزير من البئر، ولا يُعاكس أيّ جهدٍ طيبٍ أدّته مؤتمرات تجمّعات فلسطينية في المغتربات وأماكن اللجوء، ولا ينافس أي عملٍ ينشغل بالهم الفلسطيني. وليس من هذا المنتظر الكثير الانشغال بالفزِعين في رام الله، وإنما منه متابعة عملٍ واضح الخطى، عمليّاتي، ومدني أهلي ضاغط، يحترم كل فصيلٍ فلسطينيٍّ. والمُطمئن في شأن المؤتمر، الذي تردّد أن السلطة الوطنية أمكن لها منع 30 عضواً فيه مقيمين في الضفة الغربية من السفر، أن الذين قاموا على المبادرة إليه، وهيّأوا أوراقه ومسوّداته، ونشطوا في التحضير له، وتواصلوا مع جموعٍ من الفلسطينيين في الوطن وخارجه، هم من أهل الثقة والنزاهة والتجربة والخبرة. وفّق الله المؤتمرين إلى سواء السبيل.