قالت لي فاطمة
(لؤي كيالي)
هل تعلم، يا ولد، أنني، أنا فاطمة هانم على سن ورمح، قد أحببت في يوم صبي قهوة، وأن الولد تمنّع عليّ، فظللت أبكي في غرفتي أسابيع، وأنظر إلى المرآة المؤطّرة بالذهب وأمسح دموعي العبيطة، وفي النهاية، قلت لنفسي إنني عبيطة. أما اليوم الذي كان أسود من الخرّوب في حياتي بعد ذلك، فهو الذي عرفت فيه أن صاحب المقهى قد طرده، فعاد إلى بلدته طنطا.
هل تعلم، يا ولد، أن القلب في يوم يكون أشد عبطاً من جحا، ولكنه هو ذلك العبط اللذيذ الذي لا يُنسى أبداً، كشعر ذلك الولد القهوجي الذي كان يرخيه على عينيه وهو ينظّف الشيشة، أو وهو يرشّ في العصاري من الأبريق أمام باب المقهى ويسقي شجرة العنب الوارفة حينما يلمحني وأنا أمرّ مكسوفة في اليوم مرّتين أو أكثر، بحجة زيارة عمتي صافيناز هانم، لأنها مريضة دائماً، وتحتاج لعمل فنجان القهوة وخاصة صباحاً أو في العصاري وأنا كنت شاطرة جداً في إعداد القهوة، وأمي تضحك وتقول لي: "خلاص نفتح لك قهوة"، فكنت أسرح مع كلماتها وأضحك ويشاغلني شعر صبي القهوة وهو يرشّ تحت تكعيبة العنب.
المحبة، يا ولد، ليست عيباً أبداً، ولكن العيب في الحسرة أو في الكتمان، ونحن أهل كتمان، إلا بعد أن يرحل الحبيب أو يغادر المكان.
أمي، يا ولد، كانت تقول: "الحب له أصول"، وأنا حاولت طوال عمري أن أمسك هذه الأصول فما استطعت أبداً، رغم أنني عشت عمري في كامل الاحترام للمرحوم وسيرة أولادي.
هل تعرف أن هذه الشجرة التي أمامك، وقد أهملها الأحفاد، كان يجلس في ظلها في الظهيرة جورج أبيض ودولت هانم تناوله القهوة أو تقشر له التفاح الآتي من لبنان وتناوله له، وأنا أرى المشهد وألقي التحية على بابا جورج، فيشير إليّ بردّ التحية، ونتواعد، أنا ودولت هانم، على الزيارة، فقد كانت تعتبرني ابنتها البكر. هذا الشجر الحزين في الحديقة يا ولد يشبه الذكرى ويشبه الإنسان حينما يخرج من حروب الحياة وهو حزين أو مجروح أو مبتلى بالنسيان كهذه الشجرة. لولا أننا أخذنا من هذه الدنيا بعض سعادتنا لكان الواحد قد بكى، وهل عيب أن أبكي أمام ابني، فأنت تشبه ابني الذي هاجر في بعض جوانبك، وخاصة الشقاء، فهل الشقاء جميل هكذا إلى ذلك الحد، يا ولد؟ وهل تعلم أن والد أولادي مات في الغرفة التي كانت بجوار غرفة يوسف وهبي، ومات بعده بيومين أو أكثر، وقد استأذنت من المرحوم زوجي أن أزور يوسف في غرفته وهو مريض، فرحّب بفروسية، وأرسل معي أيضاً باقة ورد، فدخلتُ على يوسف وهو شبه نائم، وحينما فتح عينيه كاد الفيروز الأزرق ينط من جمال عينيه. كان الفيروز على حاله يا ولد، فشد على يدي بامتنان وشم باقة الورد وشكرني وشكر المرحوم وخرجت.
في الحياة، يا ولد، أشياء صعب وصفها وصعب أيضاً الوقوف أمامها أو التحديق فيها، كعيون ذلك الصبي وهو أمام المقهى يرش تحت تكعيبة العنب في العصاري، ويرخي شعر جبينه على عينيه ويتمنّع عليّ، أنا فاطمة هانم، أحياناً أعبر شارعاً كنت أتمني أن أشم ترابه وياسمينه، وتعبرني سنوات طويلة، فأخاف العبور في ذلك الشارع، بل أتجنّبه إلى شوارع أخرى تتعبني في المسير، وخاصة بعدما كبرت، ولكن الإنسان يبتعد قدر الإمكان عن لمس الذكرى، مثل ذلك الشارع الذي كان على ناصيته يسكن الموسيقار مدحت عاصم ويعتني بحديقته الصغيرة، وأتذكّر وأنا طفلة صغيرة وكنت على ذراع أمي أن نادى عليها وقال لها: "تفضلي فهنا أسمهان"، ولكن أمي حكت لي بعدما كبرت أنها خجلت أن تدخل عليه المنزل من غير ميعاد سابق، وخاصة ومعه ضيفة في مقام أسمهان، وظلت أمي تحكي لى تلك الحكاية على سبيل الاعتزاز بأهلها وشيمهم في الزيارة رغم أنها كانت طيبة جداً.
الأدب، يا ولد، ليس كله معرفة بل أحياناً يختلط بالكسوف وبالتربية أيضا وبعزّة النفس وأحياناً تدخل الكرامة، فاشرب قهوتك ولا تنس في المرة القادمة أن تأتي بجريدة الأهرام معك، فالولد الفالصو العكروت عادل انقطع من أسبوع عن رميها في البلكونة كعادته، مع أنني قد سددت من شهرين اشتراك السنة.