قاطع أو لا تقاطع الأمر سيّان

11 يونيو 2025

عراقية ترفع إصبعها بعد تصويتها في مركز انتخابي في بغداد (18/12/2023 الأناضول)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

مع بدء فصل الصيف في العراق، وتصاعد درجات الحرارة، شرعت حمّى الانتخابات البرلمانية المقرّر إجراؤها في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل تغشى بغداد على نحوٍ مبكّر، وانطلق السباق على مواقع التواصل والفضائيات، وتبودلت الاتهامات بين المرشّحين، وانتشرت الفضائح، حتى بين أطرافٍ كانت العلاقة فيما بينها، وإلى حد قريب، "دهناً ودبساً"، والطرق فيما بينها كانت سالكة إلى أن وقع المحظور، وأخذ كل طرفٍ يرتّب أولوياته، ويضع خططه، ويراجع ميزانيّته ليدخل في صفقات البيع والشراء، جرياً على العادة المتبعة في كل عملية انتخابية سابقة. ومع ذلك كله، بدت قطاعات واسعة من العراقيين عازفة عن متابعة ما يجري، إذ تكفيهم هموم البحث عن الخبز، والماء، والكهرباء، وعن فسحة أمان، وبعض منهم خرّيجون ومهنيون وإعلاميون وناشطون رفعوا شعار المقاطعة، على أساس أن لا حل للعملية السياسية الحالية إلا بحلها!

إلى ذلك، حمل السباق الانتخابي سيناريوهات كثيرة يتقاطع بعضها مع البعض الآخر، لترسم صورة البرلمان المقبل الذي يعول عليه بعضهم في إحداث تغيير، ولو بدرجة دنيا، فيما لا يأمل آخرون منه أن يحرّك ساكناً أو يجبر مكسوراً، ومن بعض مشاهد السباق أن "عرّابي" الإطار التنسيقي قرّروا خوض الانتخابات بقوائم منفصلة، على خلفية الخلاف على ملفات سياسية داخلية وخارجية عديدة، لكن المتوقع أن يعودوا بعد الانتخابات متناسين خلافاتهم للتوافق من جديد لتشكيل الكتلة الأكبر التي تحظى برئاسة الحكومة. أما زعامات المكوّن السني، فالصورة تبدو أكثر تشتّتاً، لانعدام وجود مرجعية محدّدة، مع أن رئيس حزب تقدّم، محمد الحلبوسي، يعمل جاهداً على اقتناص الفرصة، والترشّح عن بغداد مخترقاً الساحة التي يعتقد قادة الإطار أنها مغلقة لهم.

ومن مشاهد السباق أيضاً، أن الشخصية الأبرز في "الإطار"، نوري المالكي، قطع حبل الود مع رئيس الحكومة محمد شيّاع السوداني، متهماً إياه بأنه "يسخّر إمكانات الإدارات الحكومية لخدمة حملته الانتخابية"، فيما شرع الأخير في إظهار نفسه رجل دولة متكئاً على ما حقّقته حكومته من استقرار أمني نسبي، ومشاريع خدمية ثانوية، ومبشّرٍ بقدرته على تغيير الحال. وفي الهامش، ظهر أكثر من تسجيل صوتي مسرّب يكشف عمليات بيع أصوات ناخبين وشرائها، وعروض سرّية لتأمين فوز وجوه معينة. وأعاد ذلك إلى الأذهان ظاهرة تأثير المال السياسي بنتائج الانتخابات، وتوقّع أن "يتشكّل برلمان الغد من أموال الفساد"، ما دفع مقتدى الصدر إلى أن يدخل على الخط، مكرّراً تمسّكه بعدم المشاركة في الانتخابات، وداعياً "الصدريين" أن يقبلوا ما يُعرض عليهم من مال، لأنه "حقّ لهم"، مع شرط أن يمتنعوا عن إعطاء أصواتهم مقابل ذلك.

قطاعات واسعة من العراقيين عازفة عن متابعة ما يجري، إذ تكفيهم هموم البحث عن الخبز، والماء، والكهرباء، وعن فسحة أمان

وضمن الخريطة الانتخابية الماثلة، يظهر تحالف "البديل" الذي يضم الحزب الشيوعي إلى جانب أحزاب صغيرة وشخصيات مدنية، طارحاً شعارات "التداول السلمي للسلطة واستعادة هيبة الدولة ومحاربة الفساد". ورغم أن ثمّة تجاوباً شعبياً مع طروحات كهذه، إلا أن حظوظ التحالف في الحصول على مقاعد برلمانية كافية تظلّ محدودة لسببٍ أو لآخر.

يبقى موقف القوى الكردية غامضاً بسبب خلافاتها مع حكومة بغداد، والانقسامات الحاصلة بين الحزبين الرئيسيين والأحزاب الصغيرة على مسائل لا تزال معلقة، ما يجعل الإقليم الكردي الأكثر تضرّراً من نتائج الانتخابات، إذا استمرّ الحال كذلك.

وعلى مستوى الدول الإقليمية، لم يظهر اهتمام كبير بالانتخابات على النحو الذي كان عليه في كل انتخابات سابقة، ربما بسبب الانشغال بما هو حاصل من تطوّرات على صعيد حرب الإبادة التي تخوضها إسرائيل في غزّة، ومفاوضات الملف النووي بين واشنطن وطهران. ولأن الساحة العراقية نفسها لم تعد مركز استقطاب وتأثير كما كانت في السابق، هذا باستثناء إيران التي تحسب بدقّة ما يجري في العراق، وتتحسّب منه، خصوصاً بعد الخسارات التي عصفت بمحور الممانعة، وهي غير مرتاحة من احتمال أن لا يحصل وكلاؤها النافذون في العراق على أغلبية مقاعد البرلمان المقبل، إذ ربما نجحت وجوه رافضة الهيمنة الإيرانية وولاية الفقيه، أو شخصيات ممثلة لتيارات مدنية وعلمانية، وهذا مصدر قلق لطهران التي تظلّ عينها على العراق الذي تعتبره موقعها المتقدّم في المنطقة.

وخلاصة جردة المشهد الانتخابي هذه، أن ليس ثمّة أمل في تغيير حقيقي يمكن أن تفرزه العملية الانتخابية المقبلة، وإنما سيعاد إنتاج "العملية السياسية" الطائفية على نحوٍ أو آخر، وهذا ما حملته تغريدة على مواقع التواصل لناشط تشريني يخاطب فيها الناخب بالقول: "قاطع أو لا تقاطع فالأمر سيّان".

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"