في وداع ديزموند توتو

في وداع ديزموند توتو

10 يناير 2022
+ الخط -

غيّب الموت، يوم 26 الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)، واحدا من الرجال العظماء الذي نادرا ما يجود العالم بمثله. كبير الأساقفة في جنوب أفريقيا، ديزموند توتو، رحل عن 90 عاما بعد صراع طويل مع سرطان البروستاتا. إنه الرجل الذي كان دوره رئيسياً في مقاومة نظام الفصل العنصري جنبا إلى جنب مع نيلسون مانديلا، وهو أحد أيقونات الكفاح ضد الظلم والعنصرية، ودافع عن السلام والمصالحة والسلام الأهلي.
تم تعيين ديزموند توتو كاهنا أنغليكانيا عام 1962، ودرس علم اللاهوت في لندن عام 1966، وتدرّج في المناصب حتى أصبح مدير صندوق التعليم اللاهوتي لأفريقيا، وشغل منصب الأمين العام لمجلس كنائس جنوب أفريقيا منذ 1978 إلى 1985. وفي 1985، أصبح أسقف جوهانسبرغ، وفي 1986 أصبح رئيس أساقفة كيب تاون، وهو المنصب الأعلى في التسلسل الهرمي الأنغليكاني في جنوب أفريقيا، وفي 1986 أيضًا، أصبح رئيسًا لمؤتمر الكنائس في كل أنحاء أفريقيا، ما أدى إلى مزيد من الجولات في القارّة.
كان له دور رئيسي بجانب نيلسون مانديلا في مناهضة نظام الفصل العنصري، وظل من أبرز داعمي منهج اللاعنف وضرورة الإصرار على نيل الحقوق بدون اللجوء إلى الصراعات المسلحة التي قد تؤدّي إلى مزيد من الدماء. وعمل أيضا وسيطا بين الفصائل المتنافسة داخل مجتمع السود، فقد كانت هناك بالطبع مجموعات عديدة، ويرجّح بعضها استخدام الكفاح المسلح ضد نظام الفصل العنصري، وهو ما كان يستخدمه الحكام البيض ذريعة لاستخدام عنف مضاد كسلطة حاكمة.

كان توتو ممن أعربوا عن معارضتهم ما حدث في مصر بعد 3 يوليو وممن وقّعوا على خطابات تطالب بالدفع في اتجاه العدالة الانتقالية

حزنت كثيرا عند علمي بخبر وفاته، فمكانته كبيرة لدي بوصفه مناضلا من أجل الحقوق، وأحد رموز منهج اللاعنف، ومن أبرز نماذج العدالة الانتقالية في التاريخ وأشهرهم. وعلى المستوى الشخصي، كان ديزموند توتو ممن أعربوا عن معارضتهم كثيرا مما حدث في مصر بعد 3 يوليو/ تموز 2013، وكان ممن وقّعوا على عرائض وخطابات تطالب بالدفع في اتجاه العدالة الانتقالية والسلم الأهلي. وإلى ذلك كله، كان من الشخصيات الدولية التي طالبت بإطلاق سراحي بعد حبسي على خلفية قانون التظاهر في أواخر عام 2013.
وبشكل عام، سيرة حياة ديزموند توتو ملهمة كثيرا لأجيالنا والأجيال اللاحقة، فإجراءات العدالة الانتقالية ومساراتها في غاية الصعوبة، وتحتاج شجاعة وصبرا غير محدودين. لذلك من المهم أن ندرس سيرته وتجربته كثيرا، فبعد أن أطلق الرئيس فريدريك دي كليرك عام 1990 سراح نيلسون مانديلا، وقاد مانديلا وتوتو مفاوضات لإنهاء نظام الفصل العنصري واعتماد ديمقراطية متعدّدة الأعراق، أسفرت الانتخابات العامة في 1994 عن تشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة مانديلا الذي اختار توتو لرئاسة لجنة الحقيقة والمصالحة للتحقيق في انتهاكات ارتكبتها كل من الجماعات المؤيدة والمناهضة للفصل العنصري، منذ سقوط النظام. وكانت مهمة اللجنة جمع الأدلة على جرائم اللاإنسانية واللاأخلاقية، وتحديد ما إذا كان الذين اعترفوا بتورّطهم في تلك الجرائم يستحقون العفو أم لا، واستمر عمل اللجنة برئاسة توتو حتى أغسطس/ آب 1998.
لم يكتف بالنضال ضد نظام الفصل العنصري في بلده، بل ناضل بعد ذلك لتحقيق عدالة أكبر، وأن تكون جنوب أفريقيا نموذجا لأمة قوس قزح التي يعيش فيها الجميع في سلام ووئام، بغض النظر عن الطائفة أو العرق أو اللون. ودعا إلى محاسبة المخطئ من أصحاب البشرة السمراء بالشدة نفسها التي كان يطالب بها بمحاسبة أصحاب البشرة البيضاء.

يعتقد كثيرون أن التجربة الجنوب أفريقية كانت الأكثر نجاحًا، على الرغم من الأخطاء، لأنها لم تتهرّب من ماضيها

وفي عام 2005 اعتبر توتو أن الضحايا لم يتلقوا التعويضات المناسبة، وأنه كان على اللجنة معاقبة المتورّطين في العنف الذين لم يطلبوا العفو أيضا. وجدير بالذكر أن الحكومة لم تبدأ في صرف التعويضات إلا بداية من عام 2003، ولم يتم صرف إلا أقل من خمس المبلغ الذي تمت التوصية به للضحايا. وكانت جلسات الاستماع الرسمية قد بدأت في 16 إبريل/ نيسان 1996، تقدّم حوالي سبعة آلاف شخص بطلب للعفو لكن 10% فقط حصلوا عليه، وهم الذين توافقوا مع المعايير والشروط التي وضعتها اللجنة التي اعتمدت مبدأ العفو المشروط أو الجزئي سبيلا لتحقيق العدالة، بدلا من الإجراءات العقابية، فكان المبدأ أن المكاشفة والمصارحة وطلب الصفح أكثر فائدة من العقاب والانتقام، فقد كان في وسع مرتكبي الانتهاكات الإدلاء بشهاداتهم وطلب العفو، وكان المدعوون يجلبون الضحايا للاستماع لشهاداتهم، خصوصا لو كانت عكس إفادات المتهمين. وقد أصدرت اللجنة تقريرا فيه أكثر من 22000 شهادة، وكان بإمكان اللجنة منح عفو للمتهمين ما لم يرتكبوا جرائم، وكان من حق اللجنة منح حق الأهلية السياسية للمتهمين أو حرمانهم منها لوقت محدد أو منع دائم، عقابا على جرائم جرى إثباتها.
كانت هناك انتقادات عديدة لنتائج لجنة أعمال الحقيقة والمصالحة، فقد استطاع كثيرون من رموز الفصل العنصري الإفلات من العقاب، كما أن الرئيس التالي لمانديلا (ثامبو إمبيكي) أقر تعديلات تتيح منح العفو لمرتكبي الجرائم بشروط أسهل من قبل، منها عدم الحاجة للاستماع لإفادات وشهادات الضحايا وذويهم. ويعتقد كثيرون أن التجربة الجنوب أفريقية كانت الأكثر نجاحًا، على الرغم من الأخطاء، لأنها لم تتهرّب من ماضيها، بل تناولته بالتشريح، مستخلصة منه الدروس والعبر، فصارت أكثر لجان الحقيقة والمصالحة شهرة، على الرغم من أنها لم تكن الأولى، فلجنة الحقيقة والمصالحة كانت الأولى بين 19 لجنة مشابهة في العالم للاستماع للأقوال على الملأ. وكانت هناك تجارب أفريقية، مثل اللجنة التي شكلها الديكتاتور الأوغندي عيدي أمين عام 1974، وانتهت إلى لا شيء، ورفض النظام نشر التقرير والتوصيات بعد مجهود كبير، اتضح بعد ذلك أنها كانت فقط لتجميل الصورة ولاكتساب الشرعية.
مجرّد الحديث عن الحقيقة والمصالحة لا يعني اجتثاث جذور المشكلة وحلها، كما أنها ليست إجراءً شكليا أو صوريا، وليست شكلا من أشكال "عفا الله عما سلف". وإنما عموما عندما يكون هناك حديث عن انتهاكات تثور أسئلة بشأن المحاسبة والقصاص، وعن الشكل الأمثل للقصاص. وعلى الجانب الآخر، يخشى المتورّط من العقاب، وربما تتّسع دائرة الانتقام لتطاول دوائر أكبر كانت (عبد المأمور)، وربما تطاول أسر مرتكبي الانتهاكات وعائلاتهم. ولذلك من الطبيعي أن تكون مقاومة أطراف عديدة فكرة المصالحة أو العدالة الانتقالية، فلم يكن الأمر سهلا بالتأكيد، فقد حارب المحافظون البيض المؤيدون للفصل العنصري ديزموند توتو، واعتبره الليبراليون متطرّفا ضد البيض. أما الراديكاليون السود فاعتبروه مهادنا ومفرّطا في حقوقهم. وبالطبع، لا يستطيع إنسان إرضاء كل البشر مهما كانت صوابية أفعاله.

اعتبر أن ممارسات إسرائيل ضد الفلسطينيين تشبه ما حدث من حكومة الفصل العنصري ضد السود

لم يكن ديزموند توتو يخشى البوح بآرائه مهما كانت صادمة أو خارج السياق الدولي أو المواءمات الدولية. على سبيل المثال، انتقد ممارسات بريطانيا العنصرية واكتظاظ السجون البريطانية بعدد ضخم من السود، وأغضب إسرائيل والجماعات الصهيونية عندما انتقد إسرائيل، واعتبر أن ممارساتها ضد الفلسطينيين تشبه ما حدث من حكومة الفصل العنصري ضد السود، وتساءل: كيف للشعب اليهودي الذي عانى من الاضطهاد في أوروبا أن يستخدم الأساليب نفسها ضد الفلسطينيين؟
وكانت هناك حادثة شهيرة عندما توجه إلى دار الأوبرا في كيب تاون، ليطالبها بإلغاء حفلتها التي كان مقرّرا عقدها في إسرائيل، حيث من غير الملائم أن يؤدّي الفنانون من جنوب أفريقيا أعمالهم الفنية داخل دولةٍ لا تزال تعتمد نظام الفصل العنصري، وترفض إعطاء الفلسطينيين حقوقهم، خصوصا أن الفلسطينيين أيضا لم يكن لهم الحق في حضور تلك الأعمال الفنية في إسرائيل كما الحق للإسرائيليين. هاجمه الاتحاد الصهيوني في جنوب أفريقيا، وأيضا السفارة الإسرائيلية في جوهانسبرغ، ومجالس وجمعيات يهودية عديدة في العالم، ولاحقته اتهامات معاداة السامية التي يتم رفعها في وجه كل من يناصر الحقوق الفلسطينية.
رحم الله القسيس ديزموند توتو، الذي كان من الشخصيات النادرة التي تناصر الحق والحرية في كل مكان. ونتمنى أن يكثر الله من أمثاله في العالم في زماننا هذا، وأيضا أن نستطيع أن نتدارس تجربته في العدالة الانتقالية وكيفية التعايش السلمي في الوطن نفسه، رغم اختلاف العرق واللون والعقيدة، ورغم حروب الماضي وخلافاته.

DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017