في وداع حارس ذاكرة مطرح

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
الإعلامي العُماني محمود عبيد (يوتيوب)
يتواشج في عُمان حضور نجوم الدراما والإذاعة والتلفزيون بالحياة الاجتماعية. لذلك؛ حين رحل الإعلامي العُماني محمود عبيد دُبّجت مراثٍ نثرية عديدة عنه، جميعها يذكر خصاله الإنسانية وأخلاقه ومواقفه الاجتماعية، إلى جانب ما عرف عنه من مرح ظاهر، حتّى في لحظات مرضه الذي أخفاه عن معارفه. إلى جانب عمره الذي أمضى شطراً طويلاً منه في فضاءات الإذاعة والتلفزيون، فقد كتب سيناريوهات ومثّل وأدّى. وعرف أخيراً بمواقفه البيئية وفيديوهاته عن مناطق العاصمة، خصوصاً مدينة مطرح التي نشأ بين حواريها. وعرف أيضاً بصوته الناضح بالحنين، وهو يتحدّث عن آثار غابرة في المدينة، وعبارة "وين" التي تطلق عادة في لحظة الحسرة والغياب والتحوّل، خصوصاً في ما يتعلّق بفضاءات الذاكرة والطفولة. في يوم وفاته، 1 يونيو/ حزيران الجاري، نشر القاصّ سليمان المعمري مقالاً عنه عنوانه "محمود عبيد ومحبّة الناس"، ذيّله بما يشبه الرثاء، حين زاره في المسشفى، وقد تنبه إلى أن بين المريض والموت شعرة، وركّز في مقاله على أثر الراحل في قلوب معارفه، وكتب "هذا لَعَمْري دليل على أن "مَن يفعل الخير لا يعدم جوازيه" كما يقول الشاعر، وأن التعامل الإنساني هو ما يتبقّى للمرء، وأن محبة الناس لا يمكن أن يضاهيها أي شيء آخر" .
كتب عنه أيضاً زميله محمد البلوشي، وكيل وزارة الإعلام: "محمود عبيد أحد أبرز الإعلاميين العُمانيين، وصاحب صوت إذاعي لا يُنسى. لم يكن محمود إعلامياً فحسب، بل كان قريباً من الناس، صادقاً مع الميكروفون، مُخلصاً في رسالته، ومحبّاً لوطنه، ومُولهاً بمطرح التي أحبّها وأحبّته". كان الراحل أيضاً متعدّد الاشتغالات، بالإضافة إلى كونه مذيعاً وناشطاً بيئياً، ساهمت بعض نشاطاته في التنبيه إلى مجموعة من الأفلاج في العاصمة مسقط، فبسبب زحف العمران الحديث توارت هذه الأفلاج، وهي أسواق مائية تقليدية كانت نشطة في ذاكرة طفولة الراحل. ذهب للبحث عن منابتها والحديث عنها، ممنّياً النفس بالالتفات إليها وإحيائها.
لدى محمود عبيد أيضاً مؤلفات درامية معروفة عُمانياً وخليجياً، مثل مساهمته في المسلسل الخليجي المشترك "حزاوينا خليجية"، إذ شارك في تأليف خمس حلقات، وكانت حلقاته ذات صدى. ولديه علاقات بفنانين ومذيعين عرب، مثل الفنانة انتصار الشراح التي طالما أشادت به إنساناً وفناناً. من أهم المسلات التي مثّل فيها "زيد وعبيد" الذي بدأ مسلسلاً إذاعياً، قبل أن يتحوّل إلى تلفزيوني، وكانت أشهر أدواره في المسلسل الإذاعي "إلّي يعيش يا ما يشوف"، إذ أدّى دور شخص سكران طوال حلقات المسلسل الثلاثين، فكان في ذلك الوقت غريباً أن يكون السكران بطلاً في مسلسل إذاعي محلي.
صار اسم محمود عبيد مألوفاً منذ ثمانينيات القرن المنصرم في أروقة الإذاعة التلفزيون العُمانيَين، متميزاً بلهجته المطرحية، وربما ساعد هذا في إضفاء جو شعبي على مسلسلات الإذاعة العُمانية، إذ إنّ عبيد، وهو الابن المخلص للحارات الشعبية، جاء إلى مسرح عمله محمّلاً بكل تناقضات السوق والحياة المفتوحة التي كانت تتميز بها مطرح، واختلاط ألسنتها، وعلوّ صوت سكانها.
حين كنّا أطفالاً في مطرح، كانت البيوت متقاربة جدّاً، حتى إنّ كل بيت يكاد أن يكون امتداداً للآخر، الباب في وجه الباب المقابل. ويمكن لنا، نحن الأطفال، أن ندخل أياً منها ونشرب الماء بعد ركض وعطش يأتي سريعاً بسبب الحرارة. يمكن أيضاً أن نصطدم في البيت بعجوز عمياء أو طفل ربطه أهله في قاعدة شجرة بيذام. وكانت في قلب بعض البيوت آبار، كما الحال في بيت جدّي المقابل لبيتنا، وفي طريق ذهابنا إلى المدرسة، رغم بيوتنا الصغيرة والضيقة، إلّا أنها لن تعود كذلك حين نرى الخيام. الغريب أن هذه الخيام كانت الأغاني تخرج من ثقوبها، وكان المغني اليمني أيوب طارش أكثر من نسمع. أحياناً ينافساه فهد بلان وسميرة توفيق. وهناك معلمة القرآن حليمة، التي تقطن في عريشة بوسط الجبل، تبيع الحلوى أيضاً. لذلك لا يدخل الواحد إليها إلّا وفي يده قطعة نقود صغيرة، لا تنظر إلى قيمتها، فتوزّع علينا بالتساوي وقت الخروج قطعة ممّا صنعته بيديها. كانت الحارة اسمُها باللهجة البلوشية "كهبن"، وتعني تحت الجبل، وكان محمود عبيد، وكاتب هذه السطور من ضمن أطفالها.
رحم الله محمود عبيد.


كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية