في نقد الشعبوية الديمقراطية

في نقد الشعبوية الديمقراطية

14 نوفمبر 2020
+ الخط -

اعتاد صف القوى الديمقراطية العربية معارك نقض الخطاب الشعبوي الاستبدادي، إلا أن هذه القوى تحتاج نقداً ذاتياً لخطابات شعبوية تنخر في صفوفها بدورها.

في كتابه الصادر أخيراً، "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته .. دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، قدّم عزمي بشارة عرضاً بالغ التعمق للأفكار النظرية العالمية ذات الصلة، ثم تطبيقاً على واقعنا العربي. وفي هذا السياق، تحدّى الكتاب أفكاراً عديدة منتشرة بين كثيرين من شباب الربيع العربي.

من حيث المبدأ، لا ينحاز الكتاب إلى الثورة كقيمة طهرانية تؤدي إلى الأفضل دائماً، بل بالعكس يثبت أن الثورات الجذرية العنيفة تنتهي غالباً بتأسيس نظم سلطوية جديدة، كما حدث في الثورة الإيرانية أو الثورة البلشفية. ومن اللافت أن بشارة تطرق إلى الفكرة نفسها مبكراً، في كتابه المهم الصادر عام 2007، "في المسألة العربية"، وفيه أن الثورات لا تؤدي إلى الديمقراطية إذا لم يَتْلُها إصلاح. وفي المقابل، يمكن أن يؤدي الإصلاح التدريجي إلى ثورة بمعنى تغيير النظام. وفي كتابه الجديد، طور الفكرة إلى نموذج "الثورات الإصلاحية"، حيث يخرج الشعب للضغط على النظام القائم لتقديم إصلاحات، كما حدث في تونس ومصر.

يطرح الكتاب سؤالاً تأسيسياً: ما الديمقراطية؟ يستعرض تعريف شيفورسكي وجون رولز بوصفها "تسوية إجرائية واتفاقاً على قواعد اللعبة من دون أن يتنازل أحد عن أفكاره"، حيث يمكن التوافق على الإجراءات ويستحيل التوافق على "الجوهر"، أي ما يميز كل تيار. ولكن بشارة يسأل في أكثر من موضع: هل الحقوق والحريات مسألة إجرائية أم جوهرية؟ يشدّد على أن هذا السؤال كان عاملاً رئيسياً في ضرب الربيع العربي، حيث واجهت بعض الدول العربية استقطاباً دينياً علمانياً، وكان ذلك من أسباب انحياز تياراتٍ علمانيةٍ إلى الاستبداد خوفاً على نمط حياتها، بالضبط كما انحازت البرجوازية الألمانية في الثلاثينيات إلى النازية خوفاً من الشيوعية. يستخلص بشارة: "لا بد من إدراج بعض المبادئ القيمية ضمن التسوية الإجرائية لأي نظام ديمقراطي مقبل، أو إقحامها إذا لزم الأمر". يستشهد بدراسات عن أميركا الجنوبية، حيث لم يتم الانتقال إلا بتقديم اليسار تنازلاتٍ ليثبت أنه "صالح للحكم". تم التوافق على منع "قتل الملك في لعبة الشطرنج"، وهو هنا حقوق المِلكية الفردية. والقيد الثاني هو "يحظر أخذ المَلِكة"، أي المسّ بالقوات المسلحة، باعتبارها حامية للتقييد الأول. 

عقيدة شعبوية أخرى هي اعتبار الديمقراطية والانتخابات النزيهة حلاً لكل المشكلات. يشدّد الكتاب على "راهنية الديمقراطية"، و"نزع السحر" عنها، فهي ليست مرحلةً تاريخيةً طبيعية، بل هي نتاج اجتهاد بشري، وقد تؤدي نتائجها إلى الإحباط الشعبي إذا لم يحدث تحسّن سريع في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية. وتتطلب الديمقراطية شروطاً، أبرزها "الإجماع على الدولة"، ووجود مؤسسات محترفة قائمة، وهنا يضرب مثالاً بالحالة الليبية، حيث أدت الانتخابات المبكرة إلى تعميق الشروخ وليس حلها. ولا تقدم الديمقراطية حلاً تلقائيا للمسألة الطائفية، ولن تغير الصناديق وحدها من واقع لبنان والعراق.

يرفض الكتاب عبر سرد مطول ادعاءات الاستبداد عن شرط الثقافة الديمقراطية المسبقة لدى الشعب، فقد قامت ديمقراطيات بالفعل في مجتمعاتٍ زراعيةٍ أو فقيرةٍ أو غير متعلمة. حين نشأت الديمقراطية في الهند كان معدل دخل الفرد 556 دولاراً. لقد سقطت نظرية "التحديث" بفعل الأمر الواقع. لكنه في المقابل يؤكد على شرط وجود ثقافة ديمقراطية لدى النخب السياسية، وتمكنها من إنجاز توافقاتٍ لطمأنة كل الأطراف، بما فيها رجال النظام القديم، بأن التنافس السياسي ليس صفرياً، ولن يفقد الخاسر كل شيء. وهنا، يجب أن نتذكّر مواقف بعض الرافضين أي أطر من العملين، التنظيمي والحزبي، والرافضين أي "مساومة" على الرغم من أنها جوهر العمل السياسي والديمقراطية.

شرط آخر يطرحه الكتاب، وهو موقف المؤسسة العسكرية. وهنا يخالف أحلاماً طوباوية ثورية، حيث يشدّد على أن تجارب الربيع العربي أثبتت استحالة نجاح أي ثورة إذا وقف الجيش موحداً ضدها، ولا بديل عن إقناع الجيش بالحياد أو التوافق مع جناح منه.

في المجمل، يعد الكتاب دليلاً مثالياً لكل الحركات والأفراد الطامحين إلى الانتقال الديمقراطي في العالم العربي. شجاعة أن يصارح المرء قاعدته بما لا تودّ أن تسمع، لا تقل عن شجاعة مواجهة الخصوم.