في نقد الخطاب النسوي العربي
في المجتمعات الرازحة تحت حُكم أجهزةٍ سياسيَّة، ما زالت فيها السّلطة العموميَّةُ السياسيَّة مخُتلطةً اختلاطاً عميقاً بالسلطة الدينيَّة المحضة، أو تُمارَس تلكَ السلطة العموميَّة في الفضاء المُشترَك بتوسّل الرموز الدينيَّة، نستطيعُ أن نميَّزَ معرفيَّاً وفكريَّاً، بين نوعين أساسيَّين من أنواع الغبن، تتعرَّض لهما المرأةُ على العموم. الأوَّل، عُنفٌ ماديُّ مُباشر ملموس، ذو طبيعةٍ أداتيَّة غرائزيَّة تلقائيَّة، تغيب فيه الإرادة العقليَّة الواعيَّة، وتكونُ المسافةُ في صدده بين الجاني والُمجنى عليه واضحة، كما أنَّ هذا العنف مُدانٌ ومشجوبٌ، من غالبيَّة القوانين المدنيَّة والأعراف الوضعيَّة والمُعتقدات الدينيَّة، كالاغتصاب الجنسي والاعتداء الجسديّ؛ الثاني، عنفٌ رمزيٌّ غيرٌ مباشرٍ مجُرَّد، ذو طبيعة ثقافيَّة تاريخيَّة مُفكَّرٍ بها، تكون الإرادة العقليَّة الواعيَّة مُشتعلة بشدّة هنا، كمَّا أنَّ المسافة بين الجاني والمجنّى عليه غير واضحة، ويجدُ هذا العنف تفسيره الثقافي وتبريره الإرتكابي، لدى نصوص مؤسَّسة للمُعتقدات الدينيَّة، أو في بعض القيم التقليديَّة السائدة في البنى المجتمعيَّة، أو في الجملة النظرية لبعض أفكار "التنوير الثقافي"، مثل فرض شكلٍ معيَّنٍ من أشكال اللباس على المرأة، من قبيل فرض الحجاب والنقاب عند قسم لا يُستهان به من تيارت الإسلام السياسي، أو منع الحجاب والنّقاب عند بعض القوى اللائكية العلمانيَّة كما في فرنسا.
والحال، فإنَّ الشكل الثاني من العنف يكون، عادةً، أكثر تركيباً وتعقيداً من الأوَّل، ومردُ ذلك سببان أساسيَّان، الأوَّل أنَّ الفاعل في العنف الغريزي هو فردٌ عيانيٌّ ظاهرٌ، على عكس العنف الثقافي، إذْ أنَّ الفاعل هي جماعةٌ لا مرئيَّة خفيَّة. السبب الثاني، وهو الأخطر، أنَّ المجني عليه في العنف الثقافي الجماعي قد يكون هو الجاني نفسه!، كامرأةٍ تحاضِر لـ"أخواتها" عن "عفّة الحجاب"، أو امرأة أخرى تبرر لكَ جرائم الشرف.
ورداً على هذا الغبن التاريخي، تشكّل بالتدريج خطابٌ نسويٌّ عربيٌّ، تبلورَ بوضوح أكثر بعد انطلاق حركات التغيير السياسي-الاجتماعي، حيثُ تشكَّلت تجمُّعات نسويَّة عديدة، متبنيَّة جملة أفكار النسويَّة العالميَّة، أو ما يطلق عليه اسم "الفيمينزم".
إشكاليَّة هذا الخطاب النسوي، وأقصد، هنا، الخطاب السوري منه، أنَّه يحاول اجتثاث وضعيَّة المرأة الحقوقيَّة، من شبكة العلاقات السياسيَّة- الاقتصادية- الاجتماعية، في الفضاء العمومي، إي تحويلها إلى قضيَّة مُنفصلة، تعرف نفسها بنفسها فقط، ومجرّدة بالمطلق عن تعقيدات الواقع. وهنا، يقعُ هذا الخطاب في مطبَّين واقعيين: الأوَّل، تجذيرُ الاختلاف البيولوجي الطبيعي بين الرجل والمرأة إلى تفارقٍ سياسيّ مُطلق، أي تحويل البيولوجيا الأنثويَّة إلى هويَّة سياسيَّة نهائيَّة، وبالتالي، إغفالُ أنَّ المرأة هي نتاج واقع سياسي- اقتصادي- اجتماعي، وأنَّ الرجل هو نتاج واقع سياسي- اقتصادي- اجتماعي، وأنَّ الصراع في التاريخ لم يكن، في أي يوم، بين الرجل والمرأة. النظرة الأبديَّة إلى الرجل بأنَّه مصدرٌ لبثّ السلطة المتفوّقة، تشابه إلى حد كبير نظرةَ باحثين إلى النصّ الديني، بأنَّه نصٌّ قادرٌ على بثِّ العدميَّة والتطرُّف في كلّ زمان ومكان. النظرتان لا تاريخيَّتان، وتنكران أن كلاً من الرجل والنص الديني هما ابنا شروطهما التاريخيَّة، وبأنَّ الخلل داخل علاقة الرجل والمرأة، خارج مسألة السلطة العموميَّة، مرتبطة، بشكل وثيق، بمسألة العدل داخل مسألة السلطة العموميَّة، خارج علاقة الرجل والمرأة.
الثاني، تفريغُ قضيَّة المرأة من أي مضمون احتجاجي جذري سياسي، ضد السلطات الحاكمة، مثل قضيَّة "المجتمع المدني" و"حقوق الأقليَّات". في التجمعات النسويَّة السوريَّة، مثلاً، لا يندر أن تجد نساءً مؤيَّدات ومعارضات للنظام السوري، منضوياتٍ في التجمُّع نفسه، باعتبار أن قضية المرأة "فوق كل اختلاف سياسي"، وهنا مكمن المغالطة، لأنَّ وضعية المرأة السورية في المجتمع، غير منفصلة في العمق عن تركيبة النظام الأسدي الأمنيَّة- السياسيَّة- الماليَّة.
على الخطاب النسوي العربي أن يوطّن وضعية المرأة الحقوقية أكثر في قاع العلاقات الاجتماعية-الاقتصادية، ليتخلص من التجريد والتعميم، ويقترب من الملموس والخاص، لا تحرر للمرأة من الغبن التاريخي من دون عدل في توزيع السلطة، وبالتالي، إزاحة هذه الأنظمة الديكتاتوريَّة.