في مسؤولية النخبة التونسية

في مسؤولية النخبة التونسية

06 يوليو 2022

تونسيون يحتجون في العاصمة ضد الاستفتاء على الدستور الجديد (19/6/2022/الأناضول)

+ الخط -

لا يمكن تحميل الرئيس التونسي، قيس سعيّد، وحده مسؤولية كلّ ما يقع في البلاد، فهو ليس سوى نتاج وضع طبيعي من تراكم الخيبات والنكسات، أو بتعبير آخر حالة عرضية للتعثّر الذي واكب مرحلة الانتقال الديمقراطي طوال السنوات العشر الماضية، ولمعالجة الداء لا بد من العودة إلى بيت الداء. وهنا تبرز مسؤولية النخبة التونسية التي تركت مصير البلاد بين يدي شخصٍ يحتاج المراقب السياسي إلى أن يُخضع قراراته وتصرّفاته للتحليل النفسي، وليس السياسي، لتشخيصها، عفواً، لفهمها. قيس سعيّد الذي قفز فجأة من خلف المركب لتصدّر الأحداث في بلد ثورة الياسمين هو نموذج للمثقف البراغماتي، حتى لا نصفَه بتعبير آخر قدحي، لم يكن يُسمع له أي صوت في عهد دكتاتورية الرئيس الهارب زين العابدين بن علي. ساقه الحظ وتدهور منسوب الثقة بالطبقة السياسية لتختاره أغلبية الناخبين التونسيين ليتولى أرفع منصب سياسي في البلاد، ليس بفضل برنامجه، فالرجل لم يتقدّم طوال حملته الانتخابية بأي برنامج، بل كان اختياره تصويتاً عقابياً ضد طبقة سياسية أضاعت الكثير من وقت بلدها الثمين، عشر سنوات، في صراعات سياسوية هامشية ومناوشات كلامية خاوية.

النخبة التونسية أمام مفترق طرق كبير .. في يدها ليس فقط مصير بلدها، بل أيضاً مصير تجربةٍ شكلت نبراساً للديمقراطيين في المنطقة العربية

دخول تونس في مرحلة العبث السياسي التي وصلت إليها اليوم مع رئيسٍ رُفع عنه القلم، يفكّر وحده ويحكم وحده ويعِدّ دستور بلاد بأكملها وحده على مقاسه، وحسب ما يمليه مزاجه المتقلب، هو نتيجة طبيعية لعشر سنواتٍ من هدر الزمن السياسي، فشلت خلالها النخبة السياسية التونسية في بناء ديمقراطية حقيقية قادرة على تحصين نفسها بنفسها من المطبّات ومناطق الاضطرابات السياسية التي تعبرها كل ديمقراطية ناشئة. فطوال السنوات العشر الماضية، الزمن الذي استغرقته مرحلة الانتقال الديمقراطي قبل أن تنتهي إلى ما آلت إليه الأوضاع اليوم، فشلت الطبقة السياسية ونخبتها الفكرية في الاختبارات الكبرى التي تعدّ بمثابة مفاتيح نجاح كل تجارب الانتقالات الديمقراطية التي عرفتها شعوب أخرى، عبرت ببلدانها نحو برّ الأمان من تشيلي إلى جنوب أفريقيا، من دون أن ننسى تجارب انتقالات ديمقراطية ناجحة عرفتها دول أوروبية حديثة العهد بالديمقراطية، مثل البرتغال وإسبانيا وعديد من دول أوروبا الشرقية التي تخلصت من نير ديمقراطياتها الشعبية المستبدّة في عهد الاتحاد السوفييتي البائد.

الدستور التونسي المعروض للاستفتاء بعد أسبوعين، وثيقة خطيرة تحمل، بين طياتها، نعي التجربة الديمقراطية التونسية

كان الاختبار الأول يتمثل بإنجاز عدالة انتقالية ناجحة، تعتبر مرحلة ضرورية للعبور من زمن الثورة إلى زمن البناء الديمقراطي، ومسؤولية الطبقة السياسية التونسية واضحة في إفشال عدالتها الانتقالية التي كان يمكن أن تكون لحظة تأسيس قوية لديمقراطية حقيقية. وتمثل الاختبار الثاني في عدم تحصين البناء الديمقراطي بمؤسسات قوية قادرة على حماية التجربة من هزّات المطبات السياسية التي يمكن أن يعرفها كلّ بنيان ناشئ، وفي مقدمة هذه المؤسسات، وأهمها تنصيب محكمة دستورية عليا، تكون بمثابة المرجع والحكم الذي يفصل في النزاعات السياسية، ويحرص على احترام القواعد الديمقراطية المتعارف عليها دولياً، ويحصّن البلد ومؤسّساتها من النزعات الفردية المرضية، كما هو حاصل اليوم. الاختبار الثالث الذي لا يقلّ أهمية عن سابقيْه يتمثل بالتصدّي للفساد الذي نخر عود التجربة الديمقراطية الفتية من الداخل، وأفقد الطبقة السياسية التي كانت تقودها ثقة الشعب الذي صوّت عقابياً ضدها للرئيس الحالي الذي بنى خطاب حملته الانتخابية على شعار محاربة الفساد والطعن في الأحزاب التي لا يؤمن بأي دور لها داخل المجتمع. لكن الاختبار الأهم الذي فشلت فيه فئةٌ واسعةٌ من النخب التونسية، خصوصاً المحسوبة على التيارات السياسية اليسارية والليبرالية، فتمثل بتأييدها انقلاب قيس سعيّد قبل عام، أو على الأقل صمتها وتواطؤها مع ما كان يقوم به من خطواتٍ تهدم البناء الديمقراطي الفتي من الداخل، فقد أعمى الخلاف الإيديولوجي مع حزب النهضة، الإسلامي، الذي يتحمّل مسؤولية كبيرة في ما آلت إليه الأوضاع في بلده، السواد الأعظم من النخب التونسية التي تماهت مع القرارات الشعبوية واللاديمقراطية التي كان الرئيس يتّخذها في سعيه لتوطيد دكتاتوريته التي لم تكشف بعد عن وجهها الحقيقي البشع. وجديد نماذج السقوط الفكري والأخلاقي المدوي لجزء من النخبة التونسية المحسوبة على ما يسمّى التيار الليبرالي، الخروج المؤسف لرئيس ما تسمّى لجنة إعداد مشروع الدستور، الصادق بلعيد، ليتبرّأ من التشويه الذي لحق بالنسخة التي أعدّتها لجنته غير الشرعية، ويتنصّل، من دون أن يرفّ له جفن، من مسؤوليته في تزكية "الدكتاتورية المشينة"، على حد تعبيره، التي بات يخشى أن يقود إليها رئيسه البلاد نحوها! وما بالك بالأصوات الشعوبية، من قبيل عبير موسي، التي لعبت دور المحرّض من أجل الانقلاب على الديمقراطية ومؤسّساتها الدستورية، وعادت اليوم بعدما استنفدت كلّ صلاحياتها التدميرية، للتباكي خشيةً على المصير الذي يقود إليه رئيس مستبدّ البلاد، فلا صدقية لانتقاداتها لنسخة الدستور الحالي التي اعتبرت أن دستور دكتاتورها السابق بن علي أفضل منها بألف مرة!

أقلّ ما يمكن أن يقال عن مشروع الدستور التونسي المعروض للاستفتاء بعد أسبوعين أنّه وثيقة خطيرة تحمل، بين طياتها، نعي التجربة الديمقراطية التونسية، وتدفن آخر أمل حملته رياح "الربيع العربي" الذي أطلقت تونس شرارته الأولى، ويريد سعيّد أن يكتب نعيه ونهايته المأساوية من دون حضور المعزّين وأصحاب "الجنازة" الحقيقيين! النخبة التونسية اليوم أمام مفترق طرق كبير، وفي يدها ليس فقط مصير بلدها، بل مصير تجربةٍ شكلت نبراساً لكلّ الديمقراطيين في المنطقة العربية. وعليهم اليوم واجب صيانة هذه التجربة من كل العبث الذي ألحقوه بها، وإنقاذ بلادهم من مصير مأساوي محتوم، فلا مساحة اليوم للأوهام وتوزيع شيكات على بياض لرئيسٍ يقود بلاهم نحو نظام دكتاتوري مُفرطٍ في الاستبداد يقوّض بناءها المجتمعي، ويفتّت وحدتها السياسية والترابية.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).