في مخاطر الوصاية الأجنبية على تونس

في مخاطر الوصاية الأجنبية على تونس

27 أكتوبر 2021
+ الخط -

يبدو أن الإجراءات الاستثنائية التي أعلنها الرئيس التونسي قيس سعيّد، يوم 25 يوليو/ تموز الماضي، بإقالة رئيس الحكومة السابق هشام المشيشي، وتعليق عمل البرلمان وتجميد اختصاصات نوابه، وأردفها بالأمر 117 الرئاسي الصادر في 22 الشهر المنقضي (سبتمبر/ أيلول) الذي تم بموجبه تعليق العمل بأغلب فصول دستور 2014، ومنح رئيس الجمهورية صلاحيات السلطتين التنفيذية والتشريعية كلها، بما في ذلك تشكيل حكومة جديدة، بمقاربة جندرية ناعمة، وتسيير البلاد بواسطة المراسيم والأوامر الرئاسية، يبدو أن هذه كلها لم تستطع الحدّ من الأزمة السياسية العميقة التي كانت تعيشها تونس في ظلّ نتائج انتخابات 2019 التشريعية والرئاسية، وإنما ساعدت على تفاقمها، على الرغم من تفاؤل شرائح شعبية واسعة. ينبثق ذلك التفاؤل من أن قيس سعيّد استطاع يوم 25 يوليو أن يضع حدا لنظام متآكل، استهلك، في أقل من عشر سنوات، القيم النبيلة التي نادت بها الثورة التونسية، وأفرغها من دلالاتها النضالية، مثل إسقاط المنظومة القديمة والحق في الشغل وتحقيق الكرامة وتساوي الفرص بين الأفراد وبين الجهات، والتنمية العادلة ومقاومة الفساد والتوزيع العادل للثروة، وتحقيق السيادة الوطنية وترسيخ الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة. لكن حقائق الاقتصاد والسياسة وارتباطات تونس الإقليمية والدولية قد تُفسد ذلك التفاؤل العارم، وتجعل من النيات الطيبة والمقولات التاريخية والمبادئ الكبرى والخطابات الجياشة التي يصدح بها الرئيس التونسي بشكل دوري تصطدم بواقعٍ أصمّ، لا ينصت إلا للأرقام والمؤشّرات الاقتصادية والمالية، المحكومة بمراكز النفوذ الدولي ومصالح قواها المهيمنة التي صاغت علاقاتها بالدولة التونسية عشرات السنين من خلال معاهدات واتفاقيات بينية ودولية، ملزمة للحكومات التونسية المتعاقبة، على اختلاف ألوانها الأيديولوجية واختياراتها السياسية وحقباتها التاريخية.

تونس تعيش حالة "استعمار مالي"، جعل من اختياراتها الكبرى وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية محلّ إملاء من المؤسسات المالية القارضة والمانحة الدولية والإقليمية

يكفي التأمل في حجم المديونية التونسية، المستندة إلى معاهدات وقوانين صارمة، التي تجاوزت 107% من الدخل الوطني الخام، بقيمةٍ تصل إلى 41 مليار دولار بما قدره 120 مليار دينار، حسب تقرير البنك الدولي لسنة 2021، للإقرار بأن السيادة المالية التونسية باتت مسلوبة بالكامل، وقد يصح القول إن تونس تعيش حالة "استعمار مالي"، جعل من اختياراتها الكبرى وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية محلّ إملاء من المؤسسات المالية القارضة والمانحة الدولية والإقليمية، إلى درجة أن تلك المؤسسات، مثل الاتحاد الأوروبي والبنك الأفريقي للتنمية، وبصورة خاصة صندوق النقد والبنك الدوليين، لا تكتفي بتلقي تقارير دورية عن أنشطة الحكومات التونسية (والبنك المركزي) ومدى إيفائها بالتزاماتها تجاه تلك المؤسسات، وإنما بات لها تمثيليات قارّة ترصد العمل الحكومي التونسي، وموظفون تونسيون رفيعون في مختلف الوزارات التونسية، على غرار الوظيفة التي كانت تتولاها نجلاء بودن، قبل أن يجتبيها قيس سعيّد على رأس الحكومة التونسية، يشرفون على تنفيذ (ومتابعة) المشاريع الممولة بواسطة القروض والهبات الأجنبية التي تخطّى استخدامها المجالات التنموية، لتشمل الميزانيات وصرف المرتبات. ويعتبر القانون عدد 35 لسنة 2016 المتعلق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي مثالا آخر للهيمنة المالية الدولية، وما تفرضه من إملاءات تشريعية، وخصوصا في فصله عدد 25 الذي ينص على أنه "لا يمكن للبنك المركزي أن يمنح لفائدة الخزينة العامة للدولة تسهيلاتٍ في شكل كشوفاتٍ أو قروض أو أن يقتني بصفة مباشرة سندات تصدرها الدولة". وقد بيّن العمل الاستقصائي المنشور في موقع نواة في 13 إبريل/ نيسان 2016، وعنوانه "قانون أساسي للبنك المركزي استقلالية على حساب السيادة" أن الحكومة التونسية لا تستطيع الاقتراض أو التصرّف في الأموال المودعة بالبنك المركزي إلا بواسطة البنوك الخاصة، أو تلك التي تشترك الدولة في رأسمالها بنسب فائدة، عادة ما تكون مربحة لتلك البنوك على حساب الدولة نفسها.

الأوروبيون الذين مكّنوا تونس من مرتبة الشريك المميز مع الاتحاد الأوروبي سنة 2012، يعتبرون أنفسهم رسل الديمقراطية وحقوق الإنسان

لقد مهّدت الهيمنة المالية الدولية على تونس الطريق أمام قوى إقليمية ودولية ودول كبرى للتداول في شأن القضايا الوطنية التونسية في مختلف منتدياتها السياسية ومؤسساتها التشريعية. وفي هذا السياق، تندرج مناقشة الوضع السياسي في تونس في البرلمان الأوروبي وإصدار قرار في الغرض في 21 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري يتضمّن دعوة "إلى العودة إلى الديمقراطية الكاملة والنشاط البرلماني في أقرب وقت ممكن، وفصل السلطات ووضع خريطة طريق"، فالأوروبيون الذين وقّعوا اتفاق شراكة مع تونس سنة 1995، ومكّنوا تونس من مرتبة الشريك المميز مع الاتحاد الأوروبي سنة 2012، يعتبرون أنفسهم رسل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأن دعمهم المادي والسياسي مختلف الشعوب يُقاس بمدى الالتزام بتلك المبادئ، على الرغم مما يخفيه ذلك الدور من رهانات ولعبة مصالح تدار بواسطة آلاف الشركات الأوروبية المشتغلة في تونس، والتي جعلت منها سوقا مهمة لبضائعها ومنتجاتها، وهذه المصالح لا تُشاهد بالعين المجرّدة، وإنما يعلمها الخبراء والدارسون. وينطبق الأمر ذاته على الولايات المتحدة التي لم تتأخر صحافتها ومختلف وسائل إعلامها في تناول الوضع السياسي في تونس بعد 25 يوليو الذي أصبح موضوعا متصدّرا لدى مراكزها للتفكير الاستراتيجي، على غرار معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى الذي نشر يوم 31 أغسطس/ آب مقالا بعنوان "تعمُق عدم اليقين السياسي في تونس"، ذكّر بمئات ملايين الدولارات التي تقدّمها واشنطن لتونس، بوصفها حليفا من خارج حلف الناتو، وطالب الحكومة الأميركية بإبلاغ قيس سعيّد "بأنها تهتم بمستقبل تونس، وأن يحافظ على التقدّم الذي أحرزته البلاد بشقّ الأنفس في ما يتعلق بالحكومة التمثيلية وحقوق الإنسان، وأن أي تغيير في النظام السياسي يجب أن يأتي من خلال عملية دستورية". وفي السياق نفسه، طالب مركز مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط الرئيس الأميركي، بايدن، بـ"تعليق المساعدات الأمنية والدعم المباشر للحكومة التونسية إلى أن يعيد الرئيس سعيّد تونس إلى مسار ديمقراطي، يشمل وجود هيئة تشريعية تعدّدية منتخبة بحرية"، وقد كان لتلك المواقف صدى في الكونغرس ومجلس الشيوخ، إذ خُصصت جلسات استماع حول الوضع التونسي في أكثر من مناسبة، تناولت فيها المساعدات المالية والعسكرية التي قدّمتها الحكومات الأميركية المتعاقبة للدولة التونسية، وكانت فصّلت فيها القول الورقة المنشورة في 3 إبريل/ نيسان 2020 في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، بعنوان "تطور الجيش التونسي ودور مساعدة قطاع الأمن الخارجي"، وشروط الاستمرار في تقديم تلك المساعدات في الميزانية الأميركية لسنة 2022 وربطها بعودة المسار الدستوري، والتثبت من أنه لم يكن للجيش التونسي دور في أحداث "25 جويلية" وما تلاها.

الرئيس التونسي مطالبٌ بفسخ الاتفاقيات الدولية والبينية التي تمثل القاعدة القانونية الصلبة للهيمنة الأجنبية

يحق للرئيس قيس سعيّد أمام هذا التحكّم الدولي بخيوط اللعبة الاقتصادية والمالية التونسية، والتدخل السياسي في تفاصيل الشأن العام التونسي وخفاياه، منذ زمن حكم الرئيس الحبيب بورقيبة، أن يعلن أنه يخوض حربا للتحرّر الوطني، وأن يجعل من استرجاع السيادة الوطنية المسلوبة شعاره الأساسي في هذه المرحلة الكبيسة من تاريخ تونس المعاصر. ولكن المؤكد أن سعيّد لن يقود حركة مقاومة مسلحة، كما كان حال حركات التحرر الوطني التي عرفتها الشعوب المستعمرة والمحتلة أوطانها والمنهوبة ثرواتها، في الجزائر وفيتنام وكوبا وغيرها. أو أنه سينتهج أسلوب الزعيم المصري، جمال عبد الناصر، في تأميم الشركات الأجنبية وتوزيع أراضي الدولة على الفلاحين. ولكي ينجح في حربه التحريرية، فإن الرئيس التونسي مطالبٌ، بصفة رئيسية، بفسخ الاتفاقيات الدولية والبينية التي تمثل القاعدة القانونية الصلبة للهيمنة الأجنبية، مثل اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي الذي يمنح البضائع الأوروبية المصدّرة إلى تونس إعفاءات جمركية، والخروج من منظمة التجارة الدولية التي تجعل من تونس سوقا للبضائع الأجنبية بما في ذلك التي يتم إنتاجها وطنيا، ما أدى إلى إغلاق آلاف المصانع وركود المنتجات الفلاحية، وكذلك الانسحاب من مذكرة التفاهم مع الولايات المتحدة، الموقعة سنة 2015 في واشنطن، في أثناء زيارة الرئيس السابق الباجي قائد السبسي، والتي جعلت تونس حليفا مميّزا للولايات المتحدة من خارج حلف الناتو. ويتعين كذلك على قيس سعيّد، في إطار حرب التحرّر الوطني التي يقودها، سداد ديون تونس التي تتطلّب وضع خطة تدوم ثلاث سنوات، تسدد بموجبها الحكومة التونسية مائة مليون دينار يوميا، لكي تنخفض الديون التونسية إلى 3%، حسب تقدير موقع "دين" الدولي. وأن يقوم بتعبئة الجبهة الداخلية، من قوى شعبية وأحزاب ونقابات ومجتمع مدني ونخب فكرية وأكاديمية وحقوقية ومنصّات إعلامية واتصالية، والتي تعرف حاليا حالة انقسام حادّ لا مثيل له حول خيارات الرئيس، ورصّ صفوفها من أجل هذه المعركة الوطنية المقدّسة.
وبقطع النظر عن مدى واقعية هذه الإجراءات أو طوباويتها، فإن حرب الرئيس التونسي من أجل التحرر الوطني، والتي تستدعي كثيرا من الحكمة والعقلانية، ستبقى مجرّد شعار إن هو عجز عن تحقيق الاستقلال المالي وفكّ الارتباط مع القوى الدولية التي تتجرّأ وتناقش الوضع التونسي، وكأنه شأنها المحلي. وسيتحوّل هذا الشعار، المشحون بالروح الوطنية التي تلهب العواطف الشعبية، إلى مغامرة تنقل تونس من الهيمنة الدولية الاقتصادية والمالية إلى خطر الوصاية الأجنبية ذات المداخل السياسية والقانونية المتعدّدة، وأسوأها الوضع تحت طائلة الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة من الدول ذاتها، المتدخلة في الشأن التونسي والمتحكّمة في مجلس الأمن الدولي، التي طبقت الفصل نفسه على كل من العراق وسورية وليبيا واليمن.