في متاهة مفاوضات سد النهضة

في متاهة مفاوضات سد النهضة

11 مارس 2021
+ الخط -

ما زالت مفاوضات سد النهضة في متاهتها، تتصل وتنقطع جولاتها من دون حلول، منذ توقيع إعلان المبادئ العام 2015 في الخرطوم، مرورا بفشل مفاوضات واشنطن برعاية وزارة الخزانة الأميركية والبنك الدولي، والتى اعتبرتها إثيوبيا تمثل انحيازا ضدها، وطالبت بوساطة الاتحاد الأفريقي. ولم يختلف المصير، كسبت إثيوبيا الوقت حتى موعد الملء الأول لبحيرة السد يوليو/ تموز 2020، والذي تم من دون توافق أو اتفاق، وفى انتهاك لاتفاقية إعلان المبادئ التي تشترط الاتفاق بين إثيوبيا ودولتى المصبّ، مصر والسودان، ما يعنى فرض سياسة الأمر الواقع.

ومن دون دخول في تفاصيل جولات تفاوض القاهرة والخرطوم وواشنطن وأديس أبابا، بالإضافة إلى اجتماعات "الفيديو كونفرانس"، وآخرها يناير/ كانون الثاني الماضي، لم تتجاوز المفاوضات نقاط الاختلاف، وظل الصراع قائما، ببقاء أسسه، وظلت المقدمات متشابهةً ومعادلات القوة مختلة من دون تغير، ولم تكن هناك، بطبيعة الحال، نتائج مغايرة.

يتضح أن إثيوبيا لا تفرض قوتها في سد النهضة وحسب، بل تثبت من خلاله جدارتها بقيادة القارّة الأفريقية وبسط نفوذها

يرجع بعضهم الفشل في التوصل إلى اتفاق عادل وملزم، يراعي توازن المصالح، إلى تعنت إثيوبيا وصلفها. وعلى الرغم من أن المقولة صحيحة، إلا أنها ليست كافية، فالأزمة مثقلة بسياقات إقليمية ودولية، ومشتبكة مع مصالح سياسية واقتصادية، وقصور لمنهج التفاوض، وهو ما يفاقم أزمة مصر والسودان نتاج الإضرار بنهر النيل. واحتجاز ما يقارب 18 مليار متر مكعب فى فترتى الملء الأول والثاني يؤثر في نقصان منسوبه، وتدفق جَريانه. ولا تقتصر المخاطر علي تهديدا للزراعة، وملايين الفلاحين، بل ومصدر الطاقة أيضا، والنيل مصدر للحياة، وبنيت على ضفافه الدولة المركزية والحضارة. إجمالا هو سر الحياة في الوادي.

وإذا كانت التفاصيل الفنية مهمة ضمن أزمة التفاوض، إلا أن ذلك لا يُخفي عمق الأزمة وأسسها سياسيا، على الصعد المحلية والإقليمية والدولية. وليست التصريحات المكرّرة، عن وصول جولات التفاوض إلى اتفاقات تجاوزت 90% من النقاط الخلافية غير ترجمة لهذا البعد الذي لم يعد كامنا، كما أن الاتفاقات والمعاهدات ضمن اختصاص السياسة الدولية، وخيارات التنمية تمثل ترجمةً لبرنامج سياسي، وتعزّز مصالح من في الحكم، وتتعرّض لتغيرات وتوظيف متكرّر. كما أن المشروع تجسيدٌ لاقتصادٍ سياسيٍّ معولم، وحركة نشطة لشركات عابرة للدول، وتتضمّن مساهمات رجال أعمال ونخب مالية متنفذة، لا تنقطع صلاتها وتأثيراتها السياسية، وليس من السهل تعطيل استثماراتها أو وقفها بالطرق الدبلوماسية التقليدية. وحتى الدول التي تنتمي إليها تلك التكتلات ورؤوس الأموال، وللحكومة المصرية علاقات بها، لمحت إلى عدم إمكانية ربط مساهمتها بمسار المفاوضات. ولا يستبعد، في هذا السياق، أن يكون السد، وبدرجات متفاوتة، أداة ضغط وسط تجاذبات إقليمية ودولية متنوعة.

ومنذ العام 2014، مرّت العلاقات المصرية السودانية، والخاصة بسد النهضة، بتأرجح، وبدا عدم حسم السودان موقفه، خصوصا في ظل حكم نظام عمر البشير، والمعروف بالمراوغة والمواقف المتناقضة خارجيا، مرورا بالثورة السودانية والمرحلة الانتقالية، والتي تركت آثارها على المستوى الشعبي، تمثلت في إعلاناتٍ متحفّظةٍ على زيارة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، أخيرا، الخرطوم. وركّزت ردود الأفعال، في مجملها، على مساحات الخلاف، لا التوافق، وبعضها وفي ظل أزمة سد النهضة لا يتسم بالموضوعية، غير أن بعضها، وفي موقف غريب، يرفض بروتوكولات اقتصادية مشتركة بين البلدين، وتلك التفاهمات في الأصل تأكيد على اتفاقيات سابقة كالحريات الأربع (2004) وما سبقها من اتفاقات ومشروعات مشابهة، خطط لها في عقدي السبعينيات والثمانينيات.

بات الوقت محدوداً ولا يحتمل فشل مفاوضات جديدة، ومعادلات القوة تحتاج إلى تغيير ونشاط على عدة أصعدة وبأدوات متنوعة

وإن كان التنسيق مع السودان اليوم بدا مكثفا وهاما، ويتخذ أبعادا ثلاثية عسكرية ودبلوماسية واقتصادية، وبدأت شواهده العام الماضي، إلا أنه كان لابد أن يبدأ في مراحل سابقة، لا تجعل عنصر الوقت ضاغطا، ويقلّل من فرص المناورة لدى إثيوبيا. بالإضافة إلى ذلك، لم يكن الاطمئنان المصري والسوداني يحمل أسسا موضوعية، ولا منطقا سليما، وإن كان مصريا مدفوعا بمحاولة طمأنة الرأي العام، وغلبة النظام في اعتبار ملف سد النهضة ليس مطروحا للنقاش شعبيا، بل يتّهم من يتناوله بإثارة الرأي العام. واستطاعت إثيوبيا أن تطمئن السودان، حتى أنها أعلنت الملء الأول، واحتجزت 4. 5 مليارات متر مكعب، لتبدأ إثيوبيا سياسة الأمر الواقع، بل تشنّ حملات هجومٍ متنوعةٍ على مصر والسودان، تروّج افتراءاتٍ بتدخل مصري في الشأن الإثيوبي، سواء في الاحتجاجات ضد الحكومة الإثيوبية أو في الصراع في إقليم تيغراي. وسودانيا، تصطنع أزمة وتخترق حدودها لتنشب مواجهات عسكرية محدودة.

ويتضح أن إثيوبيا ليست تفرض قوتها في سد النهضة وحسب، بل تثبت من خلاله جدارتها بقيادة القارّة الأفريقية وبسط نفوذها. ويوظف متخذو القرار فيها ملفات المياه والتنمية والحدود والحرب لهذا الغرض. ويقف رئيس وزراء إثيوبيا الحائز على جائزة نوبل للسلام، أبي أحمد، ليترجم ممارسات القوة وذهنيتها، ويعبّر عنها سواء في الداخل الإثيوبي، بما فيه النزاع المسلح في تيغراي ومظاهرات أورومو وأديس أبابا أو على حدود السودان في منطقة الفشقة. وثالثا، وبشكل أبرز، تجاه مصر في قضية شديدة الخطورة على أمنها المائي ومستقبل شعبها. ويسرد الجانب الإثيوبي، وللأسف تسانده أصوات سودانية، أن مصر تفرض قوتها وتريد الاستحواذ على موارد الشعبين، السوداني والإثيوبي، بما تتضمنه من الموارد المائية، على الرغم من أن إثيوبيا أعلنت أن النيل أصبح بحيرة إثيوبية، وأن مصر ضمن الجغرافيا الطبيعية دولة مصبّ، ولم تنشئ مجرى مائيا، أو تنشئ سدّا يحرم دولا أخرى من المياه، فهى دولة مصبّ، ولا تهدر مياه النيل، بل على العكس تعاني من شحّ مائي، وتحاول ألا يتسع عبر استخدام تقنيات حديثة وتبطين الترع، بل واتخذت إجراءات بمنع بعض الزراعات والمحاصيل التي تستهلك المياه.

بقاء الأزمة كما هي يهدّد بعدم استقرار، ليس دولتي وادي النيل وحسب، بل وأمن البحر الأحمر أيضاً

وباستثناء ما بدا أنه استعداد وتنسيق عسكري بين مصر والسودان، في زيارة السيسي الخرطوم، السبت الماضي (6 مارس/ آذار)، وما سبقه من لقاء وزيري الدفاع المصري والسوداني، يظهر خطاب الدبلوماسية المصرية هادئا ومنضبطا فى قضية سد النهضة. وقد بدا ذلك في لقاء جمع وزيري خارجية البلدين، وحتى في لقاء السيسي ورئيس مجلس السيادة السوداني، عبد الفتاح البرهان، كانت نتيجته تطابق الرؤى بشأن استكمال مسار التنسيق الثنائي لاستكمال المفاوضات، بما لا يضر أي طرف، ويضمن المصالح المشتركة. ورحّبت القاهرة باقتراح الخرطوم لوساطة دولية رباعية تضم الاتحاد الأوروبي والأفريقي والأمم المتحدة والولايات المتحدة، وهو ما قوبل بإعلان ترحيب الأمين العام للأمم المتحدة المشاركة في عملية التفاوض. ومن المتوقع في الأيام المقبلة أن تجري اتصالات ولقاءات وتحرّكات أوروبية وأميركية، وربما اتصالات عربية مساندة لجهود التفاوض، خصوصا مع المصالحة الخليجية، وضمنها بين مصر وقطر، والتي يمكن أن تتجاوز آثار ضعف التواصل الخليجي سابقا، وما يمكن أن تلعبه دول لها حضورها في القرن الأفريقي، وتبقى عدالة مطالب مصر والسودان، وما يمثّله سد النهضة من مخاطر حقيقية دافعا لجهود الوساطة والضغط على إثيوبيا قبل الملء الثاني. أما بقاء الأزمة كما هي، فإنه يهدّد بعدم استقرار، ليس دولتي وادي النيل وحسب، بل وأمن البحر الأحمر، خصوصا وأن مصر والسودان في كل جولات التفاوض امتلكا صبرا فائضا، ورفضا أحاديث الحلول العسكرية وفرضياتها، بوصف المفاوضات ما زالت ممكنة. ولم ترد القاهرة على تصريحات إثيوبية مستفزّة، كحديث أبي أحمد عن استعداد ملايين من شعبه للحرب.

يتضح اليوم أن المشهد بات يمثل مواجهة إثيوبية صريحة لمصر والسودان قبيل الملء الثاني، والذي يعني احتجاز ما 13, 5 مليارات قدم مكعبة، وأن الوقت بات محدودا ولا يحتمل فشل مفاوضات جديدة، وأن معادلات القوة تحتاج فعليا إلى تغيير ونشاط على عدة أصعدة وبأدوات متنوعة، وأن تخاطب الدولتان المحيط العربي، خصوصا الدولة التي تربطها علاقات مع إثيوبيا، بالإضافة إلى إعادة التواصل مع الدول التي تشارك شركاتها ومستثمروها في بناء السد، وإيضاح أن هذا الاستثمار يخلف أضرارا على البلدين، ويهدّد الاستقرار في المنطقة، وهو ما سينقل الملف خارج غرف التفاوض الحالية لتفكيك الأزمة.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".