في مئوية إدغـار موران

في مئوية إدغـار موران

15 يوليو 2021
+ الخط -

احتفلت الأوساط الثقافية في فرنسا والعالم، الأسبوع الماضي، بالعيد المائة لميلاد الفيلسوف وعالم الاجتماع الشهير، إدغار موران، والذي يعد أحد كبار مفكري القرن العشرين وأكثرهم عمقاً وتأثيراً، إذ لم يتوقف عن التأليف والتحليل والنقد والاستشراف منذ منتصف أربعينيات القرن الماضي، معايِشاً بذلك معظم الأحداث التي شهدها العالم، ومتفاعلاً مع ما أفرزته من إشكاليات وقضايا. وتوزّعت انشغالاته بين حقول كثيرة، أبرزها الفلسفة والسوسيولوجيا والإثنولوجيا والتربية والسينما. ويبقى كتابه الموسوعي ''المنهج'' أهم كتبه وأكثرها إثارة للجدل. وقد بدأ صدور مجلداته الستة (طبيعة الطبيعة، حياة الحياة، معرفة المعرفة، الأفكار، الهوية الإنسانية، الأخلاق) سنة 1977، واستمر حتى 2004. وما يلفت الانتباه في هذا العمل الضخم تداعي الحدود بين التخصصات وتداخلها، وهو أمرٌ تسوّغه، حسب موران، الطبيعة المركّبة للفكر الإنساني، فتغدو الوثوقيات النظرية والمعرفية عقبةً أمام التفكير الحر. وتمتد ظلال هذا الكتاب إلى معظم ما كتب، خصوصاً في ما له صلة بكتاباته عن الصورة والسينما، فقد ساهم، بشكل لافت، في تيسير استضافة العلوم الإنسانية، بمختلف تخصّصاتها، للمتخيّل السينمائي والبصري.

يعود هذا التنوع في انشغالات موران، في جانب منه، إلى شعورٍ رافقه بهويته ذات الأصول والروافد المتعدّدة؛ فهو الفرنسي ذو الأصول اليهودية الشرقية، واليوناني والمتوسطي والأوروبي والكوني. ولم يجد يوما صعوبةً في استضافة هذه الهويات والمؤالفة بينها بكلّ سلاسة، منطلقاً من فكرة تأسيسية مفادها بأن الإنسان كائنٌ مركّب، ومعرفته تتطلّب تنوع المعارف وتجاذبها، بما يعيد الاعتبار لهذا إليه، باعتباره إنساناً أولاً وأخيراً، بصرف النظر عن الهويات التي يتحرّك ضمنها.

يرى موران أنّ المعرفة بطبيعتها غير مكتملة، فهي بحاجةٍ دائماً للتفكيك وإعادة التركيب، من دون الركون إلى ما يبدو منجزاً معرفياً مكتملاً. فالمعرفة، مثل كلّ الظواهر الإنسانية، لا تستقر على حال، وهي محكومةٌ بجدليات باديةٍ ومضمرةٍ. وعلى الرغم من أنه يؤكّد دائماً على أهمية التخصص في معرفة الظاهرة الإنسانية، وإضاءة ما يستعصي منها، إلّا أنّ ذلك لم يمنعه من التأكيد، أيضاً، على ضرورة التوفيق بين التخصصات، من أجل فهم كلّ ما يستجد بشأن هذه الظاهرة. وقد أبانت جائحة كورونا وجاهة ما ذهب إليه موران، فقد باتت البشرية بحاجةٍ لمنظومة متكاملة من العلوم والمعارف والتخصّصات، حتى يكون في مقدورها مواجهة الجيل الجديد من الجوائح، والحدّ من تداعياتها التي لا تقتصر على مجالٍ دون آخر.

من ناحية أخرى، لم يتوقف عن توجيه سهام النقد إلى الحضارة الحديثة، معتبراً أنّ التقدّم العلمي والتقني والاقتصادي لم يفرز امتداداته الإنسانية المرجوّة، في ظل تسخير الدول الكبرى عوائده خدمة لمصالحها، ما تسبب في مزيدٍ من التدهور الحضاري والثقافي الذي يتبدّى في مشاعر الكراهية والانغلاق، والتطرّف الديني، والاستبداد، والتغوّل الرأسمالي وأوهام الرخاء الاقتصادي والمادي. وبالتوازي مع ذلك، لم يتوقف موران عن الانشغال بالحياة، بما هي ورشة مفتوحة للإصلاح والتجدّد والأنسنة، عنوانها البارز سياسةٌ حضاريةٌ مغايرة، تنبني على إشاعة قيم التسامح والاختلاف والغيرية والتنوع الثقافي، بغاية تنمية الأفراد والجماعات على حد سواء.

في السياق ذاته، لم تحُل أصوله اليهودية بينه وبين الانحياز للحقوق الفلسطينية المشروعة وإدانة السياسات الإسرائيلية. وله موقف مشهود في هذا الصدد يعود إلى 2002، عندما كتب مقالاً مشتركاً، مع المفكرين سمير ناير، ودانييل ساليناف، نُشر في صحيفة لوموند يدين فيه الغطرسة الإسرائيلية. وهو ما جرَّ عليه، وعلى زميليه، غضب الدوائر الصهيونية في فرنسا والعالم التي اعتبرت المقال معادياً للسامية. ولطالما رأى في نزعة الأسرلة تهديداً وجودياً لمستقبل اليهود، لأنّ في ذلك مصادرةً لما عانوه من اضطهاد تاريخي، فتوظيف ''معاداة السامية'' يمنح إسرائيل، حسب موران، المبرّر الأدبي والأخلاقي والسياسي للمضيّ في سياساتها العدوانية تجاه الفلسطينيين.