في ضرورة تحرّر الفلسطيني من نكبة الوهم والاستسلام

في ضرورة تحرّر الفلسطيني من نكبة الوهم والاستسلام

23 مايو 2021
+ الخط -

ثمّة خبران: صرح وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، أنّه "لا يُمكن وقف دوّامة العنف إلا بإيجاد حل جذري للقضية الفلسطينية". قال الاتحاد الأوروبي إنّه "سيبحث كيفية المساهمة في إنهاء دوّامة العنف الحالية". يمنحنا هذان الموقفان رؤية حقيقية حول مقاربات دول العالم للقضية الفلسطينية، كونها تشبه، إلى حدٍ كبير، مواقف الأطراف الفلسطينية، والعربية أيضاً، فبعضهم يرى المشكلة في الصهاينة ووجودهم، وآخرون يرون المشكلة تتمثل في حركة حماس والمقاومة. وبين هذا وذاك، هناك مواقف ومقاربات مختلفة ومختلطة.

في حقيقة الأمر، كلما اقترب الشعب الفلسطيني من إعادة تشكيل وعي العالم بأنّ المشكلة الحقيقية تكمن في الوجود الصهيوني والأيديولوجيا الصهيونية على أرض فلسطين، كلّ فلسطين؛ من رأس الناقورة وحتى أم الرشراش، نجد الولايات المتحدة؛ حُكاماً ولوبيات، تتصدّى لأيّ محاولة لإدانة الكيان الصهيوني أو تقريب نهاية أجله. بل حتى أنّها تسعى جاهدةً ومستنفرة كلّ أدواتها؛ إعلاماً ودبلوماسيين، لجعل ذلك يبدو بعيد المنال، إذا لم نقل مستحيلاً. يُضاف إلى أدواتها المباشرة استخدام أدواتها في منطقتنا؛ من عملاء ورؤساء وأجهزة استخبارات ودعاية سوداء، في مقدمتها التطبيع المذلّ لبعض العرب، وهو خنجرٌ مسموم يؤسس للهزيمة العربية حاضراً وديناً وروايةً، إذ يؤدّي إلى إحباط النفوس، وهزيمة الوعي الجمعي الناهض.

تعمل الولايات المتحدة وحليفاتها الغربية على سرقة نصرَ الفلسطيني دوما وتحوّله إلى هزيمة وآلام مدة طويلة، محاولةً كيّ وعيه بأنه ضعيفٌ أمام الصهيونية

الوجود الصهيوني، وكما تبيّن خلال الثلاثة والسبعين عاماً الماضية، يُمثّل جريمة مكتملة الأركان، فلا تمر بضع سنين إلا ويُهاجِم شعب فلسطين الأعزل، استيطاناً أو عدواناً، وإذا لم يهاجم الفلسطيني (و"إذا" هذه من باب أنّ الفعل قد يصبح في الخارج أكبر)، فإنّه يهاجم بلداً أو هدفاً لشعب عربي أو مسلم شقيق مجاور، كما يفعل مع سورية وإيران ولبنان وقبلها العراق. وكلّما خاض الفلسطيني نضالاً، واقترب شعوره من النصر والحصول على حقوقه غير القابلة للتصرّف بالعودة وتقرير المصير، ويُصبح قاب قوسين أو أدنى بفضل مقاومته وصموده والتفاف شعوب العالم حوله، تسرق الولايات المتحدة وحليفاتها الغربية نصرَه وتحوّله إلى هزيمة وآلام مدة طويلة، محاولةً كيّ وعيه بأنه ضعيفٌ أمام الصهيونية، وعليه التسليم بالهزيمة.

ونرى هذا في عام 2021 مع الأحداث الحالية، فبعد صمود المقاومة في غزّة، وانتفاضة الداخل المحتل وانتفاضة القدس المتزامنتين مع هبّة الضفة الغربية التي تأخرت قليلاً، ظهر أصل المسألة، وجذورها المتمثلة بإنشاء الكيان الصهيوني عام 1948، وما رافقه من تهجير ولحقه من استيطان وإحلال، يتم التركيز على قضايا صغيرة هامشية، حلّها أو تسكينها يُبقي الملف الفلسطيني مفتوحًا بكلّ صفحاته، ومُرشّحاً للتصعيد مرةً أخرى. المسكّنات الآنية لن تغلق الملف الفلسطيني، بل ستزيد من حالة الصراع أمداً آخر، فربما تستطيع بعض المبادرات والإلهاءات الدولية تجميده أعواماً أخرى، لكنّها لن تطول، إذ سيعود له الوعي وينفجر.

وعليه، في هذه المرحلة من النهوض الفلسطيني العام، على العرب، ومن يُمثّل الشعب الفلسطيني مهما كانت صفته أو مدى شرعيته، الخروج من حالة المراوحة في الحاضر، والذهاب إلى الأصول في البحث عن حلٍّ جذري للقضية الفلسطينية، يستندُ إلى قاعدة دولة فلسطينية على كامل فلسطين الانتدابية؛ دولة عدل ومساواة من دون تفرقةٍ دينية أو عنصرية أو قومية، محاكاةً لنموذج جنوب أفريقيا. هذا هو الحلّ الوحيد. أما إعادة إنتاج العناوين السابقة نفسها، مثل حلّ الدولتين، أو إبقاء الوضع الراهن، فهو مهزلةٌ واستخفافٌ وهدر للدماء وتدمير للإنجازات التي تحققت بفعل العمل المقاوم. وما سلوك هذا الطريق، المُجرّب مرةً تلو الأخرى، إلا التفاف على الإرادة الشعبية ومحاولة لوأدها، كما حصل بعد انتفاضة العام 2000.

تعلّم الفلسطينيون درساً أنّ المفاوضات ليست خياراً، ما لم تُدعّم بالمقاومة المستمرة وبكلّ أشكال النضال

وما القانون الدولي، وما يسمى شرعية دولية، إلا ملهاة لتضييع القضية. لذلك، يجب عدم الذهاب إلى القرار المسخ رقم 242 الصادر عن مجلس الأمن عام 1967، والذي تحوّل، مع اتفاق أوسلو، إلى قيدٍ يُدمر الانتماء الفلسطيني الشامل، مراعاةً لما تريده أوروبا، وما يسمى المجتمع الدولي الذي جرت صهينته، كي يقبل بطرد شعب وإحلال آخر غريب مكانه، بالحديث الجزئي عن صراع حدود وسيادة ودولة مسخ لم تتحقق، ولن تتحقق قريباً أيضاً بعد 25 عاماً من المفاوضات العبثية التي شملت تنازلاتٍ مؤلمةٍ وصلت إلى حد التنازل عن 78% من أرض فلسطين الانتدابية، وقبول فلسطيني (قيادي) بحق إسرائيل في الوجود على أرض فلسطين، مقابل اعتراف بسلطة إدارة مدنية هزيلة مرتبطة بالاحتلال وتُنسّق معه، وترك الكلّي الذي هو جذر الصراع المُتمثل بالصهيونية ومقاومتها بوصفها أيديولوجيا عنصرية استعمارية إحلالية، تعيثُ فساداً في الأرض.

لذلك، وحتى لا يُلدغ الفلسطيني من الجحر ذاته مرةً أخرى، من المفترض في حال حدثت مفاوضات مستقبلاً، أن يكون المفاوض شاباً مقاتلاً وطنياً، يتجاوز صيغ أوسلو وقرار مجلس الأمن 242 الذي يخص دول طوق فلسطين (سورية ومصر والأردن تحديداً)، ولا يخص الفلسطيني إلا في ما يتعلق بعودة اللاجئين إلى ديارهم. المقاتلون، بصرف النظرِ عن أداتهم؛ سلاحاً أو حجراً أو كتابة وطنية، هم وحدهم من يحق لهم التفاوض كونهم يملكون روحاً جامحة غير مدجنة ومهزومة ولا يائسة، بل مشحونة بالأمل والعزيمة.

الفلسطينيون اليوم، وفق كلّ القراءات والمعطيات، يَعتبرون الفدائي الممثل الشرعي المعبّر عن جوهرهم الأصيل

الفلسطينيون اليوم، وفق كلّ القراءات والمعطيات، يَعتبرون الفدائي الممثل الشرعي المعبّر عن جوهرهم الأصيل، وهذا ما أثبتته الأيام الماضية في أنّ الشعب الفلسطيني يقف خلف من يتحدّى ويتصدّى للعدو. لذلك وإجابةً على سؤال ما العمل، يجب إعادة بوصلة التحرير والعمل الفدائي كجوهر وهدف لمنظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وإلا سيتجاوزها الواقع الذي يتبلور يوماً تلو الآخر فلسطينياً.

انتهاء المعركة بطابعها المسلح في قطاع غزة هو البداية؛ بداية جني الثمار بعد هذا الصمود الأسطوري والقتال المشرف، وبعد إعادة الروح الوطنية والأمل بالتحرير والعودة إلى كلّ القرى والمدن التي هُجّر منها أبناء فلسطين عام 1948. وقد تعلّم الفلسطينيون درساً أنّ المفاوضات ليست خياراً، ما لم تُدعّم بالمقاومة المستمرة وبكلّ أشكال النضال، وتعلموا أنّه ما لم يكن هناك برنامج وطني وهدف شامل يُعيد القضية إلى جوهرها، بوصفها صراع وجود لا حدود، فإنّ الصراع سيكون في غير محله. لذلك يجب التخلّي عن الوهم المتمثّل في أسطرة "إسرائيل" قوةً لا تُهزم، والتركيز على صناعة الأمل والنصر والتحرير والعودة، وذلك كلّه لا يتأتى إلا بعبارة "ع القدس رايحين .. شهداء بالملايين" فالعدو الصهيوني لا يفهم إلا لغة القوة، والقوة وحدها وبدرجاتها كافة من ناعمة إلى خشنة، وحتى القاتلة، رداً على الإجرام الصهيوني، هي الخيار الوحيد القادر على إحداث التغيير والتقريب من النصر، الذي لن يتحقق إلا بهزيمة الأيديولوجيا الصهيونية.

77666EA5-3069-490C-A5BB-DA22F57426B4
77666EA5-3069-490C-A5BB-DA22F57426B4
علاء أبو عامر

أكاديمي وباحث ودبلوماسي وروائي فلسطيني، دكتوراه في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية

علاء أبو عامر