في صورة تشييع نصر الله

25 فبراير 2025

مشهد من مراسم تشييع نصر الله وصفي الدين في بيروت (23/2/2025 العربي الجديد)

+ الخط -

شكّلت مناسبة تشييع أمين عام حزب الله السابق حسن نصر الله ورفيقه هاشم صفي الدين، في المدينة الرياضية في بيروت، فرصةً كبيرة ليُظهِر الحزب أنه لا يزال موجوداً بقوة في الساحة اللبنانية، بحشد شعبي بمئات الآلاف من المشاركين المشيّعين من لبنان وبعض الدول. وقد مضى وقت طويل تقريباً على تأثير مثل هذه الحشود في الصورة، منذ انتفاضتَي الثامن والرابع عشر من آذار (2005)، إثر عملية اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري. برز حزب الله بعد الحرب الإسرائيلية القاسية والمدمّرة على لبنان في الصورة الشعبية الزاهية بالناس، والنازفة بالحزن، بعد خمسة أشهر على اغتيال أمينه العام، وتأكيداً للمتوقّع أن الاغتيالات على دمويّتها وعنفها لا تقضي على الجماعات العقائدية التي بٳمكانها أن تعيد تجميع صفوفها وتستعيد قوتها الشعبية السابقة.
قدّمت الصورة دليلاً على أن عمليات القتل الٳجرامية، التي استهدفت فيها ٳسرائيل قيادات حزب الله لم تكن سبباً للاعتقاد بأن مرحلة ما بعد تشييع نصر الله ستكون مختلفة، بكل ما يحيط بلبنان من متغيّراتٍ وتحوّلاتٍ ولعدّة معطيات، ومنها المعطى التاريخي الذي يقول إن عمليات "قطع الرؤوس" تؤدّي ٳلى تشكيل قيادات جديدة، وإن مجموعات كبيرة مقاومة مثل حزب الله أو حركة حماس لا تنطبق عليها هذه الوصفة.

قرار مواصلة الحرب يُغضِب اللبنانيين، الذين ضحّوا كثيراً من أجل ٳعمار ما دمّرته الحروب

عندما اغتالت ٳسرائيل عبّاس الموسوي (1992)، لم يمت الحزب معه، وأثبت نصر الله أنه أكثر قدرة بكثير، وتحوّل الرجل الأقوى، وتمكّن من تشكيل بيئة نابضة، انخرط فيها الحزب أكثر مع ناسه، وهم مصدر قوته وحمايته واستمراره، وتحوّل "محور المقاومة الٳسلامية" كياناً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وبقدرة الفوائد التي يقدّمها لبنانياً وٳقليمياً 40 عاماً. والأمر نفسه ينطبق على اغتيال قائد حركة حماس يحيى السنوار ورفاقه في غزّة، منذ اغتيال مؤسّس الحركة الشيخ أحمد ياسين عام 2004. الحجّة الفلسفية/ العقائدية، التي لا تفهمها الدولة العبرية، وعبّر عنها مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل "حماس فكرة، ولا يمكنك قتل الفكرة". هكذا لم يُقصَ رأس حزب الله، ويستمرّ التنظيم في حشد بيئته، كما الفصائل كلّها في العالم، التي ازدهرت عقوداً. تستطيع إسرائيل فقط تدمير غزّة أو لبنان، لكنّها لن تنجح في القضاء على فكرة المقاومة، ما دامت تحتلّ أجزاءً من الجنوب، ولا تحترم حقّ الفلسطينيين في ٳقامة دولة مستقلة، وسيكون هناك من هو على استعداد دوماً لمحاربتها.
رغم ذلك، هناك شكوك كثيرة تثيرها عملية ظهور حزب الله بقوة سياسية وشعبية في ظروفٍ غير مواتية من الخسارة على مستويات بشرية وجيوسياسية مختلفة، منها أنه سيحتاج، على سبيل المثال، إلى موارد مالية كثيرة لدفع أجور مقاتليه وموظّفيه، ولٳعادة ٳعمار القرى والبلدات المدمّرة في حربه مع العدو الٳسرائيلي، وليس بمقدوره أن يكون كما كان قبل الاغتيال "دولةً داخل الدولة" في لبنان الرسمي، الذي دخل مرحلةً إيجابية جديدة، مع التركيز على ضمانات تطبيق اتفاقية هدنة في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، ووقف ٳطلاق النار، والتزامه بتنفيذ قرار مجلس الأمن 1701 بمندرجاته كاملة، والقول للعالم إنه "ما زال بلداً، وليس مسرحاً تعباً لحروب الآخرين في أرضه" (جوزاف عون)، وأنه في مسار سياسي لوقف مسلسل الانهيارات السياسية والاقتصادية.
يدرك حزب الله أنه في مواجهة موازين قوى مختلفة، جاء بيان حكومة نوّاف سلام على أساسها، واستبدل للمرّة الأولى عبارة "الجيش والشعب والمقاومة" بعبارة "حقّ الدولة في ضمانة احتكار السلاح"، في ٳشارة إلى الطريقة التي سيتعامل بها لبنان مع القضية. لم تأت صورة الحشد الطائفي بتصوّرات سياسية يبنى عليها نهائياً، بل حملت مجموعة نقاط وٳشارات متناقضة وردت في خطاب الأمين العام نعيم قاسم لٳنقاذ ما يمكن ٳنقاذه، بعد الذي فقده الحزب في الحرب والسياسة، لجهة "الاستفادة من فكرة المقاومة في مناقشة الاستراتيجية الدفاعية، وشراكة حزب الله في بناء ونهوض الدولة تحت سقف اتفاق الطائف"، وأن لبنان "وطن نهائي لجميع أبنائه، والحزب من أبنائه، وسيواجه ٳسرائيل ويطردها عبر تحرّك الدولة دبلوماسياً، وأن الحزب سيعمل تحت "سقف الطائف". وسيكون هناك متّسعٌ من الوقت لمراقبة سلوك الحزب، وسيتبيّن مدى التزامه بمسؤولية الدولة عن تحرير الجنوب. ٳنها بداية استدارة نحو السياسة، وعلى الجميع أن يلتقطها في لحظةٍ من زمن التضامن الوطني والأخوة الٳنسانية، وفي مناخات استمرار الحزب في السلطة، وفي مرحلةٍ مليئةٍ بالتحدّيات التي يواجهها، والعقوبات، العزلة الداخلية، بخلاف التحالفات في العامين 2005 و2009، وحيث لم تعد طهران وسورية تملكان الوسائل لٳحياء تلك الروابط الاجتماعية والسياسية.
استخدم حزب الله الصورة رسائلَ مباشرة عن موقعه ودوره داخلياً وخارجياً، وممثلاً رئيساً لبيئته، وهو يدرك أن مهمّة السلاح بوجه إسرائيل قد تراجعت واقعياً. وتأكّد الجميع أن الحروب ليس لها حدود وأشكال تنتهي بأن تقتل وتدمّر، ولا يستطيع لبنان في تكوينه وتناقضاته الاستمرار في تشكيل أوضاع مواتية لحربٍ مفتوحة، مع سعي ٳسرائيل إلى تكريس احتلالها خمس نقاط حدودية، وهي دخلت على خطّ التشييع بتحليق مكثّف لطيرانها في استعراض قوة، لتفسد هدف إثبات الحزب قوّة ردعه ومقاومته.

استخدم حزب الله الصورة رسائلَ مباشِرة عن موقعه ودوره، وهو يدرك أن مهمة السلاح بوجه إسرائيل قد تراجعت واقعياً

من جهة، لا يستطيع الحزب استخدام سلاحه في مواجهة جديدة تتسبّب بهذا البؤس كلّه، ولا ضدّ اللبنانيين الآخرين، كما حاول في 2008، فأثار العداء الذي لم ينجح في التغلّب عليه. من شأن مثل هذا النهج أن يقسّم مجتمعه، ولا نيّة عند الغالبية لمحاربة مواطنيهم، فتخرج الأمور عن السيطرة بحجة احتفاظه بالأمن الذاتي الاستراتيجي. ولن يكون اللبنانيون محكومين بمزيدٍ من الفوضى في مواجهة واقع تتعرّض له المنطقة من أوهام محاولات قلب الشرق الأوسط والخرائط الجديدة.
أيّ قرار في مواصلة الحرب يُغضِب اللبنانيين، الذين ضحّوا كثيراً من أجل ٳعمار ما دمّرته الحروب، وبشعور من عدم الارتياح لمساهمة الحزب في تقرير تخطيّه حدود الدولة، والحؤول دون جذب الطائفة الشيعية ٳلى مشروع جديد يلبي طموحاتهم من مثل النقاش حول اتفاق الطائف 1989، حتى لو كان الهدف تجاوزه وتحديثه. ويمكن أن تُستخدَم الخيارات المتاحة في استدارة الحزب، مثل التفكير في مؤتمر وطني بشأن مستقبل البلاد، ومستقبل العلاقات الاجتماعية، والتكيّف مع أوضاع داخلية وٳقليمية جديدة.
الملاحظة الثابتة، أرست المشهدية مشهداً كبيراً يبني أسطورة المكانة الفريدة لشخصية نصر الله، مع أن مناسبة التشييع لم تكتسب طابعاً سياسياً وطنياً شاملاً حول الرجل الأقوى في السيطرة عاطفياً على المواقف الشعبية الشيعية الٳرادية، ولن تُستبدَل صورته بسهولة. وقد لا يتمتّع خلفاؤه بالقدر نفسه من الدعم، مع الٳشادة القصوى التي تلقّاها من الراعي (رئيس البرلمان الإيراني قاليباف)، الذي يعمل على ترميم الصورة وتأطير موقع لبنان في خريطة المفاوضات المحتملة بين طهران وواشنطن.

يقظان التقي
يقظان التقي
إعلامي وأكاديمي ومترجم لبناني، له عدد من الكتب، دكتوراة في الدبلوماسية والعلاقات الدولية.