في سقوط ناشر مغربي إلى دركٍ أسفل من الوقاحة
في مرافعة بائسة سخيفة ومثيرة للاشمئزاز والاستفزاز، عاد الناشر المغربي، أحمد الشرعي، صاحب أكبر مجموعة إعلامية في المغرب، إلى الدفاع عن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ومهاجماً محكمة الجنايات الدولية التي أصدرت، الأسبوع الماضي، مذكّرتي اعتقال ضده وضد وزير دفاعه السابق يوآف غالانت، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. كاتب هذه المرافعة المبتذلة، التي صدرت يوم الأحد، في موقع "ذي تايم أوف إسرائيل"، هو نفسُه صاحب مقولة "كلنا إسرائيليون"، وهو عنوان مقال نشره في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بعد ثلاثة أيام من بدء عملية طوفان الأقصى، على موقع "ذي جيروزاليم ستراتيجيك تريبيون" الذي أسّسه الناشر نفسه في تل أبيب، وصف فيه حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بـ "الجماعة الإرهابية المدعومة من لدن إيران"، واعتبرها "تشكّل تهديداً للأمن القومي الأميركي ولجهود واشنطن من أجل تحقيق السلام في المنطقة"، ووصف إسرائيل بـ "الأمة الديمقراطية".! وقد أثار هذا المقال، وقت نشره، ردات فعل غاضبة واسعة في المجتمع المغربي لما تضمّنه من استفزاز لمشاعر المغاربة المتضامنين مع القضية الفلسطينية.
جاء مقاله الذي نشره أخيراً أكثر استفزازاً، بسبب ما تضمّنه من سقوط أخلاقي مدوٍّ، ففي وقت حظي قرار المحكمة الدولية بترحيب دولي واسع، نصّب كاتبه نفسَه محامياً عن الشيطان، مبرّراً جرائم نتنياهو، ومدافعاً عن "حقه" في ارتكابها، وفوق ذلك برّأه منها. وحتى تتضح الصورة أكثر للقارئ، بدأت هذه المرافعة السخيفة، بوصف قرار المحكمة بـ "الخطوة المروّعة ضد زعيم حكومة ديمقراطية"، ما يثير "تساؤلات خطيرة حول شرعية المحكمة ونزاهتها"، معتبراً أن ما تقوم به إسرائيل هو حقها في "الدفاع عن النفس" الذي يقرّه القانون الدولي، خاصة بعد "الهجمات الوحشية التي شنّتها حماس في هجومها الإرهابي المفاجئ في السابع من أكتوبر والذي أسفر عن مقتل أو اختطاف حوالي 3000 إسرائيلي ومواطن أجنبي". ولا نعرف من أين جاء صاحب المقال بهذا العدد من الضحايا الإسرائيليين الذين لا تذكُرهم حتى وسائل الإعلام الصهيونية المتطرّفة!
وفي هجومه على المحكمة الجنائية الدولية، يكتب صاحب المقال إنها أنشئت أصلاً لـ "تحقيق العدالة لضحايا الفظائع في الدول الفاشلة أو الخارجة عن القانون، لا أن تحلّ محلّ الأنظمة القضائية العاملة في الدول الديمقراطية مثل إسرائيل"، ما يشكل "خطراً غير مسبوق بإنشاء سابقة خطيرة، ليس فقط لإسرائيل ولكن لجميع الديمقراطيات". وأما عند صاحب المقال، فـ"المحاكم الإسرائيلية معروفة بصرامتها واستقلالها. وفّرت منذ فترة طويلة منتدى للفلسطينيين الساعين إلى العدالة، ولم تتردّد في محاسبة المسؤولين الإسرائيليين"!
وصف أحمد الشرعي قرار محكمة الجنايات الدولية بـ "الخطوة المروّعة ضد زعيم حكومة ديمقراطية"، ما يثير "تساؤلات خطيرة حول شرعية المحكمة ونزاهتها"
أما ضحايا الإجرام الإسرائيلي الذين تجاوز عددهم في غزّة وحدها أكثر من 44 ألف شهيد وأكثر من مائة ألف جريح، أغلبهم من الأطفال والنساء والمدنيين العزّل الأبرياء، وتدمير مدن غزة بالكامل، فهؤلاء بحسب صاحب المقال مجرّد" أضرار جانبية مأساوية وخسارة أرواح بريئة من الجانبين". المهم عنده هو معرفة من المسؤول عنها. "هل نتنياهو هو الشخص الوحيد المسؤول؟"، كما يتساءل كاتب المقال، ليردّ على نفسه بأن الجواب القاطع والواضح أن "الجناة الحقيقيين الذين ينبغي محاسبتهم هم القادة الذين أوصلونا إلى هذه النقطة، النظام الإيراني، الذي يموّل ويدعم ويدير استراتيجية الإرهاب الوحشية التي تزعزع استقرار المنطقة بأسرها". لذلك يصبّ صاحب المقال جام غضبه على المحكمة التي "تخاطر بمصداقيّتها، وتكشف عن نفسها مؤسّسة مسيّسة"، لأنها ألقت كل لومها على نتنياهو، وتركت "المسؤولين حقاً عن زعزعة استقرار المنطقة" يفلتون من العقاب!
لا أعتقد أن أحد صحافيي "القناة 14" الإسرائيلية المتطرفة، كان سيفلح في كتابة مرافعة بكل هذا الكم من الوقاحة والسخف والبذاءة، كما جاء في هذا المقال الذي حمل توقيع شخص محسوب على الصحافة المغربية. ولا مجال هنا لمقارنة ما جاء في هذا المقال من دناءة بمقالات "جريئة" التي تُنشر في الصحافة الإسرائيلية، خاصة في صحيفة هآرتس العبرية، وجديدها مقال جدعون ليفي الذي كتب إن محكمة لاهاي لو لم تُصدر مذكّرتي الاعتقال لخانت مهمّتها أمام الحقائق الصارخة من أرض غزّة المدمرة والمشبعة بالدماء. شتّان ما بين من يرفع صوته عالياً للانتصار للحق حتى لو كان ذلك ضد بني عمومته ودمه، ومن يُشهر قلمه ليثخنه في الضحية من بني جلدته لعل الجلاد يرضى عنه ويجازيه.
شتّان بين من يرفع صوته عالياً للانتصار للحق حتى لو كان ذلك ضد بني عمومته ودمه، ومن يُشهر قلمه ليثخنه في الضحية من بني جلدته لعل الجلاد يرضى عنه ويجازيه
ما جاء في مقال الناشر المغربي من دفاع عن مجرمي الحرب الصهاينة، ومن إشادة بإرهاب الدولة الإسرائيلية، ومن هجومٍ سخيفٍ على محكمة دولية، كلها عناصر كان من شأنها أن تعرّض صاحبها للمتابعة القضائية في المغرب، كما طالبت بذلك هيئاتٌ مدنيةٌ وأحزابٌ سياسية، لأن فيها إشادة صريحة بالإرهاب، ومناصرة، بل دفاع عن مرتكبيه، لكن القضاء المغربي الذي يقاضي مناهضي التطبيع ومناصري القضية الفلسطينية على تدويناتٍ تعبّر عن آرائهم السلمية لا يُنتظر منه أن يتحرّك ضد صاحب هذا المقال المحسوب على جهاتٍ نافذة داخل المغرب، ما يطرح أكثر من سؤال عمّا إذا كان هذا الرأي فعلاً يعبّر عن وجهة نظر رسمية داخل الدولة المغربية التي التزمت الصمت ولم تعلق على مذكّرة الاعتقال ضد رئيس وزراء دولة تجمعها بها علاقات تطبيع؟!
ما ينمّ عنه هذا المقال، ليس فقط وضاعة طرحه وضحالة حجّته، وإنما أيضاً حجم الغباء السياسي عند من أملى على صاحبه كتابته لمهاجمة قرار محكمة دولية رحّبت به حكومات غربية ودولية وازنة قرأت فيه نهاية لرجلٍ مجرمٍ متعجرفٍ أصبح يشكل عبئاً كبيراً على أقرب حلفائه، بل على إسرائيل نفسها. ألم يخطئ صاحب مقولة "كلنا إسرائيليون" هدفه مرّة أخرى، المرّة الأولى عندما اصطفّ إلى جانب المجرمين والقتلة، وهذه المرّة عندما نصّب نفسه محامياً عنهم أمام محكمة الشعوب ومحكمة الرأي العام الدولي؟ ففي وقتٍ يسعى العالم، بما في ذلك إسرائيل، إلى التخلص من هذا الإحراج المسمّى نتنياهو، يأتي صاحب هذا المقال أو من أملاه عليه ليضع نفسه على الجانب الخطأ من التاريخ. إنه الغباء بعينه، ولكنه أيضاً السقوط إلى الدرك الأسفل من السفاهة والوقاحة وقلة المروءة.