في رحيل زعيم "جمهورية الرمثا"

28 نوفمبر 2024

يوسف الهربيد في شبابه في خمسينيات القرن الماضي (وسائل التواصل)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

في الصورة التي بالأبيض والأسود يبدو يوسف الهربيد شابّاً، بقميصٍ أبيض على الأغلب وربطة عنق. ولولا حادثة نادرة، فإن أحداً لم يكن ليُعنى به، أو بصورته هذه، سوى أفراد عائلته، فالصورة تشبه آلافاً أخرى كانت تُلتَقط للشبّان في خمسينيات القرن الماضي وستّينياته، إما لإصدار بطاقات هوية رسمية أو لغايات التوثيق العائلي والإهداء للأصدقاء. وربما يجد أبناء هذا الجيل صعوبةً في تقبّل الفكرة نفسها، أي إهداء الصور، لكنه ما كان يحدُث آنذاك. ... لكن من هو يوسف الهربيد؟

إنه أحد شيوعيي الأردن في الخمسينيات، ومن أعلن مدينته الرمثا (شمالي البلاد) جمهورية، احتجاجاً على حلف بغداد الذي انخرطت فيه العراق وتركيا وإيران وباكستان، وكان الأردن في سبيله للانضمام إليه لولا معارضة شعبية وحزبية عنيفة. في ذلك الوقت، لم يكن الشاب يوسف الهربيد، الملقّب بالهر، قد بلغ بالكاد العشرين من عمره، عندما وجد نفسَه يتصدّر المظاهرات في مدينته الصغيرة آنذاك، الأقرب إلى القرية منها إلى المدينة، حتى أنه عندما اُعتقل أول مرّة بسبب نشاطه السياسي، لم يقض فترة سجنه في الرمثا، بل في إربد المجاورة، وكان ذلك حدثاً كبيراً في تلك البلدة التي تقع على الحدود من سورية، فقد سُجّل اعتقاله أول حادثة اعتقال على خلفية سياسية في تاريخ مدينته. لكن هذا الشاب التي تُظهره صورة بالأسود والأبيض، انتشرت بعد الإعلان عن وفاته قبل أيام، بنظرات ثاقبة، سرعان ما جعل من مدينته الأكثر شهرةً في البلاد، عندما أعلنها جمهوريةً، برفقة متظاهرين غاضبين، فالمظاهرات ضد حلف بغداد وقد توسّعت خرجت عن سيطرة القائمين عليها، وبدت كرة ثلجٍ تتدحرج وتتضخّم وتزداد سرعةً كلما تقدّمت، وهو ما كان مع متظاهري بلدة الرمثا آنذاك، الذين هاجموا المركز الحدودي بين بلادهم والجوار السوري وأحرقوه، وأعلنوا بلدتهم جمهوريةً منفصلة، وقطعوا الطريق على سفيري مصر وتركيا، وهاجموا رجال الأمن واحتجزوهم، وفي القلب من ذلك كان الشاب الهربيد.

عندما اعترض المتظاهرون سيارة السفير المصري جاءوا بالرجل إلى الهربيد، فأُخلي سبيلُه لأن القاهرة تناصب الحلف العداء. وتكرّر الأمر مع السفير التركي الذي تعرّض للإساءة، لأن بلاده عضوٌ في الحلف. ولك أن تتخيّل أننا نتحدّث عن شاب في مطلع العشرينات من عمره، يصول ويجول ويحكم ويأمُر، بل ويذهب به الحماس ورفاقه من المتظاهرين إلى فكرة إعلان بلدتهم جمهوريةً مستقلةً، لكن هذا ما حدث فعلاً.

يروي الصحافي الأردني، أحمد أبو خليل، وهو رئيس تحرير موقع "زمانُكم"، قصة إجرائه حواراً مع الهربيد، فقد استغرق الأمر ثلاث سنوات لإقناعه بقبول الفكرة، والحوار الذي شهد انتشاراً كبيراً بعد الإعلان عن وفاة من كان شابّاً اُلتقطت له صورة بالأسود والأبيض، موجود على الموقع الذي يديره أبو خليل، وأظنّه الأول الذي أُجري مع الرجل، وإنْ لم يكن فهو الأكثر شموليةً في سرد تلك الحادثة الفريدة في التاريخ الأردني المعاصر.

انتهت الجمهورية إلى الكُتب، وتحديداً إلى مذكّرات الشيوعيين الأردنيين، وربما تحوّلت إلى رمزٍ لدى بعضهم، وإلى ما يشبه الطرفة لدى آخرين، لكنها واقعياً كانت ضرباً من الفانتازيا السياسية، وأشبه بلوحةٍ سورياليةٍ مع ضربات لونية قاسية، ربما بالسكّين وليس بالريشة، ونتاج تلك النزعة الطفولية، البراءة، التي قادتها أحلامها إلى النطْح في الصخر، وما كان لهم ألا يفعلوا سوى ذلك، في تلك الحقبة التي فاضت فيها أحلام بعض ناسها على واقعهم وإمكاناتهم، بل وعصرهم نفسه.

لكنّ الواقع كان أكثر قسوةً من أحلام الهربيد الذي فرّ إلى سورية قبل دخول الجيش إلى الرمثا، فقد تكشّفت الأحلام عن كونها أحلاماً ليس أكثر، ووجد الشابُّ نفسَه بعد عودته إلى بلاده "ضيفاً" في سجن الجفر الصحراوي، بين رفاقه الشيوعيين، وأغلبهم كانوا من رموز الحزب وقادته التاريخيين، ليتحوّل (الهربيد) بعد ذلك إلى أيقونةٍ يحجّ إليها شيوخ الحزب وأنصارُه ممن يحنّون إلى ماض ذهبي قدّموا فيه أخصب سنوات عُمرهم في السجون.

والرمثا لمن لا يعرفها من العرب جزءٌ من سهل حوران الخصيب. مدينة صغيرة، وجميلة، تشتعل فيها الخضرة كالحريق في الربيع، ورجالها ونساؤها جميلون وجميلات، مثل ذلك الزمن الذي كان فيه الهربيد شابّاً وحالماً، بتطرّفٍ ربّما.

زياد بركات
زياد بركات
قاص وروائي وصحفي فلسطيني/ أردني، عمل محررا وكاتبا في الصحافتين، الأردنية والقطرية، وصحفيا ومعدّا للبرامج في قناة الجزيرة.