في ذكرى الانتفاضة الليبية

في ذكرى الانتفاضة الليبية

11 فبراير 2022

طفل ليبي يلوح في طرابلس بعلم بلاده في الذكرى العاشرة لثورة فبراير (16/2/2021/الآناضول)

+ الخط -

منذ اندلاع انتفاضة فبراير في العام 2011، وانتهت بمقتل معمر القذافي في مسقط رأسه مدينة سرت، ما زالت ليبيا تتقاذفها أمواج الصراعات الداخلية المسلحة، وتتلاعب بها القوى الخارجية التي ترى في حالة عدم الاستقرار مناخا مناسبا لتحقيق مصالحها. صراعات مسلحة ساهم النظام السابق في إشعالها، بعد أن فتح مخازن سلاحٍ أنفق المليارات في شرائه وتخزينه، رافعا شعار "أنا ومن بعدي الطوفان"، الأمر الذي جعل أكثر من مليون قطعة سلاح خارج السيطرة، بما فيها الأسلحة الثقيلة. ولم يقف العدد عند هذا الحد، بل تعدّاه أضعافا مضاعفة، بعد أن لعبت الدول الخارجية دورا محوريا في تزويد وكلائها في الداخل بالسلاح لضمان تحقيق مصالحها وفرض وجودها في أي تسويةٍ يمكن أن تحدُث، على الرغم من المحاولات، الظاهرية، والعمليات التي تبنّتها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، كعملية أيني، والتي لم تستطع منع بواخر كانت تجوب البحر المتوسط ناقلة أسلحة ومرتزقة لا يزال وجودها سببا رئيسيا في حالة الفوضى والانفلات الأمني الذي تعيشه البلاد.

انتفض الليبيون قبل 11 عاما، ليتمكّنوا من إنهاء حكم ديكتاتوري استمرّ جاثما على صدورهم 42 عاما، وقد ساهم التدخل العسكري الدولي، بغارات حلف شمال الأطلسي (الناتو) في تحقيق هذا الهدف، إلا أنه، من جهة أخرى، أحدث فراغا أمنيا كبيرا، حيث أدّى ذلك التدخل إلى تدمير القدرات الأمنية والعسكرية، من دون أن يساهم في عملية إعادة بناء هذه الوحدات، لتكون قادرةً على مواجهة التحدّيات الأمنية بعد نجاح الانتفاضة، وغاب عن هذا التحالف أن النسيج المجتمعي الليبي وتركيبته القبلية لم تكن مهيأة لتكوين دولة بالمفهوم "الويستفالي" الحديث، حيث ساهم القذافي في الحفاظ على هذه التركيبة، بما يحقق بقاءه في السلطة، ولم يؤسّس دولة بالمعنى المتعارف عليه، وجعل كل المؤسسات تدور في فلكه، ليصنع دولة من خيالٍ، تؤدي أجهزتها الأمنية واجباتها من أجل أمن النظام وحمايته. أما جيشها فلم يكن يحمل أي عقيدة تتمحور حول الدولة، بل مجموعات من الكتائب المسلحة توزعت بين أبنائه والمقرّبين منه، فسقطت كل هذه المؤسسات بمجرّد سقوط النظام لتدخل البلاد في فوضى ألقت بظلالها على كل مناحي الحياة.

أغلبية الليبيين يعتبرون أن كلا من المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب هما أحد الأسباب الرئيسية في ما وصلت إليه البلاد من تشظٍّ وانقسام

شارك الليبيون في الانتفاضة وهم يحلمون بغد أفضل يتمتعون فيه بخيراتٍ وهبها الله لهم، وكانت الدوافع الرئيسية لمعظمهم الفقر والبطالة وانعدام المساواة والامتهان الممنهج للكرامة أكثر منها تغيير نظام حكم أو إنهاء استبداد سياسي أو إحداث تحول ديمقراطي كان يشغل النخب والسياسيين والمعارضة أكثر من غيرهم، خروج أكده الشهيد القائد الميداني، محمد المدني، في كلمته المشهورة قائلا "ما خرجنا من بيوتنا كرها للقذافي في شخصه، ولكننا ثرنا ضد نظام كامل من الفساد". أحلام لم تكن مستحيلة، اعتقد الغالبية أن ما يفصلهم عن تحقيقها هو سقوط هذا النظام وانتهاء هذه المنظومة، غير أن المتابع للأحداث لن يجد صعوبةً في أن تلك الأحلام والأماني، وعلى بساطتها، لم تتحقق بسقوط النظام، بل وأصبحت تبتعد في كل فترة نتيجة صراع مستميث على السلطة. كما أنه ليس عسيرا على المواطن أن يلحظ أن الوعود التي قدّمها، ولا يزال متصدّرو المشهد، لم تكن سوى دعايات واستغلال لحاجة الناس للبقاء أطول ما يمكن في كراسيهم، وأن استمرارهم في السلطة، من وجهة نظرهم، يعني أن أي شي آخر هامشي، وكل الخسائر الاجتماعية والاقتصادية تبدو غير ذات أهميةٍ أمام بقائها في المشهد.

نجحت انتفاضة فبراير في أحد أهدافها، وهو التخلّص من نظامٍ كان التخلص منه شبه مستحيل نتيجة القبضة الأمنية التي مارسها، والتي أدّت إلى فشل كل المحاولات السابقة، لتنتهي إما بإعدام كل مشارك فيها أو هروب المحظوظ منهم خارج البلاد، من دون أن يفكّر في العودة إلى معرفته بالمصير الذي ينتظره. شهدت البلاد بعد ذلك استقرارا سياسيا وأمنيا غير مسبوقين، وأفضت إلى انتخابات المؤتمر الوطني الذي مارس دور المجلس التشريعي، إلا أن ذلك لم يدم طويلا، فسرعان ما استطاعت القوى المضادّة للثورة امتصاص الصدمة وجمع صفوفها من جديد، مستفيدة من دعم بعض الدول الساعية إلى إفشال هذا الحراك، والحيلولة من تحقيق أهدافه، خشية انتقال الحراك المطالب بالتغيير إلى هذه الدول. وتقاطعت مصالح هذه الدول التي تعمل على إفشال هذه التحرّكات من خلال ربطها بالفوضى وانعدام الأمن، مع مصالح مؤسسات الدولة العميقة التي استعادت نشاطها، واستغلت كل الإمكانات المادية والإعلامية لإيصال رسالة مفادها بأن الثورة قد فشلت، وأن المعاناة وتردّي الخدمات وانعدام الأمن مردّه تلك الانتفاضة التي أطاحت نظام القذافي. ونجحت هذه القوى في رسم صورة قاتمة للمستقبل أيضا، حتى أصبح المواطن حبيسا لليأس ومشكّكا في القدرة على الخروج من هذا النفق، بل وأصبح كثيرون منهم يعيشون ما يعرف بظاهرة النوستالجيا (الحنين إلى الماضي).

لم تنجز الانتفاضة الليبية مهامها لتخرج البلد من محنته التي أوصلته إليها النخب التي تصدّرت المشهد وأعادت إنتاج الفشل

تعدّدت أسباب الفشل، إلا أن أغلبية الليبيين يعتبرون أن كلا من المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب هما أحد الأسباب الرئيسية في ما وصلت إليه البلاد من تشظٍّ وانقسام، حيث تمسّك الأول بالكرسي، وفرض نفسه على المشهد السياسي الليبي، ولم يكن له أي دور سوى مناكفاته المستمرّة مع مجلس النواب. وعلى الرغم من طبيعة عمله الاستشارية التي نصّت عليه اتفاق الصخيرات الذي كان سببا في استحداث هذا المجلس، إرضاءً لتيار الإسلام السياسي المهيمن على هذا المجلس ليضمن تمرير ذلك الاتفاق، إلا أن هذا المجلس تفنن فقط في ممارسة كل ما من شأنه بقاؤه في المشهد السياسي، يعارض ويستميت في المعارضة، عندما يكون في ذلك منفعة له وضمان لبقائه، ويوافق ومن دون تردّد للأسباب نفسها. أما مجلس النواب فذلك وكما يقول الليبيون "مشكلة المشكلات"، فوجوده على الساحة، منذ البداية، كان سببا في حرب "فجر ليبيا" بين داعم له ومعترض على وجوده، واستمرّ ولا يزال يمارس عمله أكثر من ثماني سنوات معرقلا أي جهود من شأنها إنهاء عمله أو انتخاب مجلس نواب بديل عنه. وأغلب قراراته تصبّ في هذا الاتجاه وبما يخدم مصلحته فقط، ولعل جديدها إصدار قانون يمنح النواب جوازات سفر دبلوماسية لهم ولعائلاتهم مدى الحياة، بالإضافة إلى استمرار تمتعهم بمزاياهم المالية، حتى وإن تركوا مناصبهم (لا قدّر الله)، في الوقت الذي يعاني فيه المواطن الليبي من صعوبة الحصول على جواز سفر من دون توصية من نافذ أو دفع لرشوة، ناهيك عن صعوبة الحصول على مرتّب لا يسمن ولا يغني من جوع، في ظل ارتفاع جنوني للأسعار. بالإضافة إلى أن هذا المجلس استكثر على الليبيين الاستقرار النسبي الذي شهدته البلاد منذ استلام حكومة الوحدة الوطنية مهامها، والتي منحها ثقته، ثم عاد وسحبها منها، ويعكف هذه الأيام على اختيار حكومة انتقالية أخرى، وهو يعرف سلفا أن حكومة الوحدة الوطنية صرّحت، في أكثر من مناسبة، بأنها لن تسلم مهامها إلا لحكومة منتخبة، الأمر الذي ينذر باندلاع مواجهات مسلحة، بدأت مقدماتها قبل أيام في العاصمة طرابلس، وبالتالي عودة إلى المربع الأول الذي لم يخرُج منه الجميع إلا بثمن قاس.

في المحصلة، لم تنجز الانتفاضة الليبية في ذكراها الحادية عشرة مهامها لتخرج البلد من محنته التي أوصلتها إليها النخب التي تصدّرت المشهد وأعادت إنتاج الفشل بثمنٍ لا يزال الوطن والمواطن يدفع ثمنه، نخب سياسية وقبلية مهووسة بحب السلطة، وغير راغبة في إكمال مشروع حلم الجميع به، وقدّم شباب دماء طاهرة من أجله، وهي (النخب) ما زالت تقتات على الصراع والفرقة والتشرذم والتمسّك بالسلطة منقوصة الشرعية، أما المواطن فلسان حاله يقول: كلما لاح لي بريق أمل أوصد "السياسي" دونه كل باب.