في ذكرى إدوارد سعيد

29 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 03:04 (توقيت القدس)
+ الخط -

حلّت يوم 25 سبتمبر/ أيلول الجاري ذكرى وفاة المفكّر الأميركي، من أصول فلسطيينة، إدوارد سعيد (في نيويورك). ومن المصادفات التي لا يمكن لسعيد أن يرحبّ بها، أنه بعد يومٍ من ذكرى وفاته (في 26 سبتمبر الجاري)، ألقى نتنياهو في قاعة الأمم المتحدة خطاباً أقلّ ما يمكن أن يقال عنه إنه خطاب أكاذيب. فقد كذب على الجميع، حتى على المسيحيين الذين قُصفتْ كنائسُهم في غزّة، وعلى الدروز الذين يسعى لإشعال الفتنة بينهم وبين مختلف المكوّنات العريقة للشعب السوري. المحاولة البائسة لإشعال الفتن طاولت أيضاً الإيرانيين من خلال دعوته التحريضية، وكأن الشعوب ومصائرها ضمن اهتمامات مجرم الحرب الموصوف "نتن ياهو"، الذي يحتلّ مقدّمةَ لائحة الإرهاب في التاريخ، بسبب عدد الأطفال الذين قتلهم، فضلاً عن النساء والمسنّين، ولم يسلم منه مختلف الأبرياء من أطبّاء ومدرّسين وصحافيين.
لم تكن هذه المصادفة الوحيدة بين "نتن ياهو" والمفكّر الألمعي إدوارد سعيد، ففي كتابه "نهاية عملية السلام... أوسلو وما بعدها" (دار الآداب، بيروت، 2002)، قال: "في أحد أيام عام 1988، كنت في طائرة عندما دخل نتنياهو مسرعاً ولم يرني، وقضى الساعة الأولى يتصفّح أعداداً قديمة من 'التايم' و'نيوزويك'. ورآني عندما عاد من الحمّام، وتجمّد وجهه، ودعا المضيفة فوراً، وطلب تغيير مقعده". كان نتنياهو يوم ذاك سفيراً لإسرائيل في الولايات المتحدة. ويتحدّث سعيد أيضاً عن موقف آخر يتعلّق بلقاء تلفزيوني مع نتنياهو في إحدى القنوات الأميركية، حين سأله المذيع "هل ترحّب بإجراء مناظرة بينك وبين إدوارد سعيد؟"، فكان ردّ "نتن ياهو" أنه لا يريد أن يجمتع به، ليس في غرفة واحدة فقط، إنما حتى في مبنىً واحد مشترك. وحين سأله المذيع "لماذا ترفض الحديث مع البروفسور سعيد؟"، أجاب: "لأنه يريد أن يقتلني".
إدوارد سعيد الذي رحل عن دنيانا في عمر 67 عاماً ترك أثراً عالمياً، وصلت أصداء كتبه العميقة إلى مختلف جامعات العالم، خاصّة كتابيه "الاستشراق"، و"الثقافة والإمبريالية"، فكشف نيّات الحملات الأوروبية على الشرق، كما كشف من خلال ما أطلق عليه بـ"الطباقية" ما يكمن تحت السطور من احتقار للآخر في روايات كنّا نظنّها ذات منحىً جمالي صرف مثل رواية "الغريب" لألبير كامو، حين يقتل البطل عربياً في الشاطئ من دون سبب، فقط لأن حرارة الشمس ضايقت عينيه. كانت رؤية سعيد الذكية، والثاقبة، مثار إعجاب من مختلف القرّاء، حين يكتشف القارئ معه مكامنَ تأويليةً في النصوص لا يمكن أن تخطر في بالٍ مثل حديثه عن الانتقام الناعم لمصطفى سعيد، بطل رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"، انتقام ناعم من تاريخ طويل من الاستعمار البريطاني للسودان. ولكن مع مضي الوقت، يكتشف بطل هذه الرواية أنه يُستعمَر من جديد من دون أن يشعر، وبالإنهاك الجسدي بسبب وفرة المقبلات عليه من الشقراوات. هذا المنحى المغاير للنظرة السائدة (والمباشرة) جعلت أبحاث إدوار سعيد وكتبه ونظرياته تسافر بعيداً في ما سمّاه سعيد، في سياق آخر، بـ"هجرة النظريات"، ليس إلى أوروبا فقط، إنما أيضاً إلى مختلف بلدان آسيا وأفريقيا وجامعاتها، فضلاً عن الدول العربية التي صارت فيها تخصّصات أكاديمية انطلاقاً من كشوفات سعيد، خاصّة ما أطلق عليه "الدراسات الثقافية" بقسميها: النقد الثقافي ودراسات ما بعد الكولونيالية.
وإذا كانت منطلقات النقد الثقافي عند سعيد ذات بعد إجرائي غربي، فإنها حين أُعمِلت في نصوص عربية أدبية قديمة بدت مفتعلةً، أو تكره النصوص لصالح نظرية وُضعتْ أصلاً انطلاقاً من نصوص غربية تتحدّث عن الشرق، ولكن حين طُبِّقت على نصوص عريبة تميّزت المعالجات بالإكراه، كما فعل الناقد السعودي عبد الله الغدامي من خلال قصائد أبي الطيّب المتنبّي، من طريق ما أُطلق عليه بالأنساق المُضمَرة. وهي رؤية يصعب استساغتها قياساً إلى مقولات إدوارد سعيد، التي قوبلت بترحيب عالمي. لذلك ما لبث الغدامي أن تخلّى عن فكرته في هذا السياق، بينما ما زالت فِكَر إدوارد سعيد تسافر وتعاد طباعتها كل مرّة، كما حدث أخيراً في ترجمة جديدة لكتاب "الاستشراق"، أنجزها أستاذ الأدب بالجامعة الأردنية محمد عصفور (دارالآداب/ بيروت، 2022)، بعد ترجمتَي كمال أبو ديب ومحمّد عناني.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي