في حاجة مصر إلى "قيصر" لإنصاف الضحايا

في حاجة مصر إلى "قيصر" لإنصاف الضحايا

04 ديسمبر 2021

(معمر مكّي)

+ الخط -

قيصر لقب أُطلق على عسكري سوري سابق انشقّ عن النظام في بلده، وسرّب عشرات آلاف من الصور لضحايا التعذيب في سورية. حينها أصيب العالم بالصدمة والدهشة، وكأن العالم لم يكن يدرك ما يجري في سورية. وقد اعتمدت على تلك الصور لجنة تحقيق دولية مكلفة ببحث جرائم الحرب في سورية لإثبات وقوع فظائع على يد النظام السوري، وكذلك دول أوروبية في فتح تحقيقات وقضايا لمحاكمة القتلة والمجرمين من النظام السوري، طبقا لنظام الولاية القضائية العالمية. وفي الصور المسرّبة (نحو 55 ألف صورة) ظهرت على جثث القتلى آثار التعذيب بالكهرباء والضرب المبرّح، وتكسير العظام، والخنق. وقف "القيصر" في الكونغرس، وقال "هناك مذابح ترتكب".
في مصر، ارتدى المتحدث الرسمي باسم الرئاسة قناع "قيصر" في لحظة غرور، واعترف بملء إرادته أن هناك مجازر تُرتكب، وقال: "خلال السنوات الماضية، القوات المسلحة دمرت حوالي عشرة آلاف سيارة دفع رباعي على الحدود المصرية الليبية كانت محمّلة بإرهابيين ومقاتلين أجانب، ولو أخذنا متوسط كل عربية فيها أربعة مثلاً، يبقى أربعون ألف إرهابي". .. والمعلومات المسرّبة قد تمثل أدلةً مادية على عمليات الإعدام التعسّفي المتكرّرة التي يقوم بها الجيش المصري منذ الانقلاب العسكري في يوليو/ تموز 2013 من دون رقيب أو حسيب. وتؤكّد، في الوقت نفسه، ضعف عمليات المتابعة وتوثيق الجرائم، فلولا الخلاف بين اللصوص، ما ظهرت الحقيقة، أن من قُتلوا على ضخامة عددهم هم من المهرّبين عبر الحدود، وقضوا بالقصف الجوي. لولا أن هؤلاء يعملون بالتهريب لُغيّبت حقيقة موتهم، حيث إن فرنسا، تبعاً لتسريبات وثائق الموقع الإلكتروني الاستقصائي الفرنسي، ديسكلوز، اشترطت على السلطات المصرية استخدام معلوماتها الاستخبارية، فتقصف الجهاديين وتقتلهم، لا المهرّبين. وموضع الخلاف أن من تعرّضوا للقتل مهرّبو ملابس وأطعمة وسجائر، وليسوا جهاديين، وكأن القانون الفرنسي يسمح لحكومته بالقصف المبرّر والقتل خارج نطاق القضاء للمدنيين، مثل دول العالم الثالث والفاشيات العسكرية!

تكشف الوثائق أن فرنسا قدّمت معلومات استخباراتية للسلطات المصرية "استخدمتها القاهرة لاستهداف مهرّبين عند الحدود المصرية الليبية

وفي شأن "قانون قيصر"، كان الكونغرس الأميركي قد صادق، في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2019 عليه، وإن لم يحصل الجناة على العقوبة التي تليق بجريمتهم. وهنا، لم يسرّب قيصر صوراً. لكن الربط بين الوثائق المسرّبة وتصريحات المتحدث باسم الرئاسة المصرية في يوليو/ تموز 2020، ومضى عليها أشهر طويلة، وربما لم يلتفت إليها إلا القليل، كشف عن أرقام مفزعة لأعداد القتلى والضحايا، تكاد تقترب من أرقام قيصر سورية، وإن لم تكن بلا صور تفصيلية وملامح.
وقد حصلت شركة Disclose على مئات الوثائق الرسمية الفرنسية السرّية التي تكشف عن انتهاكاتٍ ارتكبت خلال عملية عسكرية سرّية لفرنسا في مصر. ويكشف التحقيق الاستقصائي الذي نشره الموقع الإلكتروني للشركة، ونقلته إلى العربية "كوميتي فور جستس"، كيف أصبحت فرنسا متواطئة في توجيه الضربات الجوية ضد المدنيين في مصر من دون سند من القانون. وفي رد فعل أولي، ذكرت وكالة الصحافة الفرنسية أن وزيرة الدفاع الفرنسية، فلورنس بارلي، طلبت فتح تحقيق فيما تم نشره، فيما لم تعلق السلطات المصرية على ما نُشر، وكأنه ليس شأناً مصرياً خالصاً.
تكشف الوثائق أن فرنسا قدّمت معلومات استخباراتية للسلطات المصرية "استخدمتها القاهرة لاستهداف مهرّبين عند الحدود المصرية – الليبية، وليس جهاديين بخلاف ما هو متّفق عليه". وبحسب التحقيق، بدأت الجريمة بإنشاء قيادة مركزية لعملية عسكرية سرّية مشتركة بين فرنسا ومصر، تحت اسم المهمة "سيرلي". في 13 فبراير/ شباط 2016. تقوم المهمة على مراقبة الصحراء الغربية، ورصد أي تهديدات إرهابية محتملة آتية من ليبيا "باستخدام طائرة مراقبة واستطلاع فرنسية خفيفة من طراز Merlin III.. لكن سرعان ما أدرك أعضاء الفريق أنّ المعلومات الاستخباريّة المقدّمة للمصريّين، تُستخدم لقتل مدنيّين يُشتبه في قيامهم بعمليات تهريب".

لم يلتفت أحد إلى البعد القانوني، من حيث مدى مشروعية هذا النمط من التعاون الاستخباراتي السري مع وحدات أجنبية على أراضي الدولة

بحسب الوثائق، "القوّات الفرنسيّة كانت ضالعة في ما لا يقلّ عن 19 عملية قصف ضدّ مدنيّين بين العامين 2016 و2018". وأن الاستخبارات العسكريّة والقوّات الجوّية أعربتا عن قلقهما من التجاوزات في هذه المهمة، في مذكّرة أرسِلت إلى الرئاسة الفرنسيّة في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017. على الرغم من ذلك، ظل الجيش الفرنسي في الصحراء يرصد ويرسل البيانات والسلطة المصرية تقصف وتقتل. وإحدى الهجمات التي استهدفت مدنيين ووثقتها "ديسكلوز" جرت في 6 يوليو/ تموز 2017، وقُتل فيها ثلاثة مواطنين مصريين في الواحات البحرية إثر سقوط صاروخ عليهم، منهم المهندس أحمد الفقي (يعمل في رصف الطرق)، حيث توجّه بسيارة دفع رباعي، ومعه ثلاثة عمال من الواحات، إلى أحد الآبار لملء المياه، ومَرّتَ طائرة على ارتفاع منخفض، وضربت السيارة بصاروخ ووابل من الطلقات. .. مرت الجريمة كما مئات غيرها.
ولم يلتفت أحد إلى البعد القانوني، من حيث مدى مشروعية هذا النمط من التعاون الاستخباراتي السري مع وحدات أجنبية على أراضي الدولة، من دون توضيح أو إعلان أو الرجوع إلى البرلمان. وفي الشق الآخر، الوثائق المسرّبة صادرة عن مكتب الرئاسة في القاهرة وقصر الإليزيه في باريس والقوات المسلحة والمخابرات العسكرية الفرنسيتين، وتنطوي على جرائم دولة، إذ تم إبلاغ مكتب الرئاسة الفرنسية باستمرار بوجود وقائع إعدام تعسفي، لكنها لم تتخذ أي إجراء. وفى 20 إبريل/ نيسان 2016. أبلغ ضابط الاتصال للبعثة رؤساؤه أن مكافحة الإرهاب، بالنسبة للمصريين، لم تعد بالفعل أولوية.

يمارس الأهالي التهريب الخطر، بسبب الفقر، لأن عائد العمل من الصباح إلى المساء في الحقول 120 جنيهًا فقط

ويكشف تقرير 15 أغسطس/ آب 2016، إصرار المصريين على الحد من نشاط المهرّبين العابرين بين ليبيا ومصر"، والذين يستخدمون سيارات "البيك آب" ذات الدفع الرباعي، ويقودها، في الغالب، مدنيون تتراوح أعمارهم بين 18 و30 عامًا، ويمكن أن تحمل سجائر أو مخدّرات أو أسلحة، ولكن أيضًا البنزين والأرز والحبوب ومنتجات المكياج. يمارس الأهالي التهريب الخطر، بسبب الفقر، لأن عائد العمل من الصباح إلى المساء في الحقول 120 جنيهًا فقط، لا تكفي لشراء كيلوغرام من اللحوم. وهذا يعني أن الضحايا مهرّبون، أو طامحون في الهروب والهجرة غير الشرعية، من أجل أن يحظوا بمستوى اجتماعي لائق، يتخلصون فيه من الفقر الذي لازمهم كظلهم، منذ وطئت أرجلهم الأرض.
وفي 21 سبتمبر/ أيلول 2016، شارك أعضاء فريق "سيرلي" معلوماتياً في استهداف قافلة من شاحنات "البيك أب" فوق الكثبان الرملية. قصفتهم طائرة طراز سيسنا 208. بعد أيام، أعلن الجيش المصري أنه دمّر ثماني شاحنات صغيرة مع ركابها الذين يشتبه في أنهم يعملون في التهريب. وكان الرئيس الفرنسي، ماكرون، يعلم بالتفاصيل، هذا ما أخبر به الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بعد ثلاثة أسابيع على توليه الحكم. ويُفترض أن تطاول الفضيحة الجميع في فرنسا، وتكون هناك ملاحقة قضائية، أما هنا فلا يستحي القاتل من ممارسة القتل علناً ضد المدنيين وهو يبتسم ويعدّها بطولة.

ما نُشر في وثائق "ديسكلوز" شهادة واضحة على حجم الانتهاكات وجرائم الحرب، واستسهال القتل العشوائي في مصر

كتبت سابقا إن حق الطالب الإيطالي، جوليو ريجيني، والذي قضى مقتولا في مصر، وجد من يطالب به، بينما ريجيني مصر لا يطالب أحداً بحقوقهم، ولم يكن لهم "قيصر" يكشف جرائم الطغاة ضدهم. ومن هؤلاء الخمسة الذين تم قتلهم بدم بارد، لتقديمهم قتلة محتملين لطالب الدكتوراه الإيطالي، وعندما فشلت المحاولة، لم يجر تحقيق في مقتلهم! ثم ووريت قضيتهم في التراب معهم.
قتل تعسفي هنا وهناك، حتى المتهمون بممارسة البلطجة باتت تجري عمليات تصفية بحقهم جهاراً نهاراً، وبشكل شبه يومي، كما حدث مع 12 شخصاً في أسوان. بعيداً عن نطاق القضاء. وعلى الرغم من أن النظام يعمل جاهداً على حجب المعلومات الخاصة بالعمليات العسكرية، بزعم الحرب على الإرهاب، لكن البيانات العسكرية النمطية والدورية التي يصدرها، وما نُشر في وثائق "ديسكلوز"، تحديداً، شهادة واضحة على حجم الانتهاكات وجرائم الحرب، واستسهال القتل العشوائي في مصر، فاستخدام القوة النارية الفتّاكة ضد أشخاصٍ لا يشكّلون تهديداً حقيقياً لأمن المجتمع وسلامته، ليس ممارسة جديدة، وإنما متكرّرة منذ 2013.
هل تؤدّي تلك المعلومات إلى فتح تحقيق جدّي في وقائع القتل التعسفي، فبموجب القانون الدولي، تتحمّل سلطات الدولة مسؤولية إجراء تحقيقات جنائية شفافة ومستقلة مع رجال إنفاذ القانون الذين يشتبه استخدامهم غير القانوني القوة القاتلة أو القتل خارج نطاق القضاء. وتشي وثائق ديسكلوز بإظهار قدر مروّع من الحقيقة، ولو من باريس، حيث ستتم محاسبة الجناة هناك على تواطئهم مع الطغاة المستبدّين والطغمة العسكرية، في القتل التعسفي. ربما تكون الوثائق بمثابة قيصر المصري الذي انتظرناه طويلاً. .. الآن بات لدينا أمل.

أحمد مفرح
أحمد مفرح
حقوقي مصري في جنيف، مدير تنفيذي في "كوميتي فور جستس"