في جديد ملف الذّاكرة الجزائرية مع فرنسا
لا جديد يُذكر ولا قديم يُؤثر في ملفّ الذاكرة الجزائرية مع فرنسا، إنما هناك تعليقات على أخبار رشحت بشأن تحركات جزائرية ومواقف فرنسية يجب الإشارة إليها، لعلّها تكون بمثابة التّأكيد على ما سبق لصاحب هذه المقالة التّأكيد عليه، في مقالات سابقة، في "العربي الجديد"، وبدون أن يكون لذلك صدى، خصوصا لدى صانع القرار الجزائري، بما يُمكن أن يدفع بالملف، على الأقل، إلى وسمه بالواقعية، مع دفع كلّ ما من شأنه إسباغه بلبوس الخطاب الأخلاقي البعيد عن الوصول به إلى المُبتغى، ولو على المدى الطّويل.
قد يكون هذا الكلام سوداويا، ولكنّه يترجم حقيقة هذا الملف الذي يُدار في ظروف شديدة التعقُّد، تضعه في مصاف الملفّات ذات الصّلة بالاستراتيجية وكذلك، بالنّسبة للجزائر. ولكنّه، من الجانب الفرنسي، مجرّد ملف تعرف رمزيته الحيوية، لكنها جعلت منه مفتاحا للضّغط، للمقايضة والشدّ والجذب في كلّ الملفّات، أيا كانت طبيعتها، ما يستدعي تغييرا فوريا لطريقة التعامل والتعاطي مع ملفّ الذاكرة، لأنّ العدمية، للمفارقة، في هذا الملفّ، أفضل من تركه عُرضة للمقاربة التّفاوضية الفرنسية وتداعيات ما يمكن السّعي للحصول عليه ليتّضح، في الأخير، أنّه سراب، على غرار ما حصل في ملفّ الجماجم التّي تمّ استرجاعها، في 2020، وتبين، وفق معلومات نقلتها صحيفة نيويورك تايمز، أنّ فرنسا تلاعبت بها أيّما تلاعب، ولم تحترم التزاماتها كما لم تتقيّد بما تمّ الاتّفاق عليه.
يأتي صاحب هذه المقالة على هذا الكلام، وقد استقبل رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، مستهل الأسبوع الماضي، مؤرّخين جزائريين عضوين في لجنة تصالح الذاكرة المشتركة مع فرنسا، وجاء في بيان تلا تلك المقابلة أن الملف سيكون في أيدي هؤلاء بعيدا عن السياسة، بما يعني أنّ ثمّة تطوّرا هامّا حلّ بالملف، يستوجب تعاملا تفاوضيا مبتكرا، على صانع القرار الجزائري استخدامه لتدارك العوائد غير المرضية تماما، والتي تظن فرنسا أنّ مزيدا من الوقت ومزيدا من التّلاعب يعني تفوّقها، وهو ما يستدعي، منّا، وقفات ملحّة ستحول الملف كله لصالح الجزائر، وبصورة بعيدة عن المعيارية والأخلاقية، بل البراغماتية، وفقط، من الآن فصاعدا.
تشير الوقفة الأولى إلى حقّ جزائري يسعى أصحابه من خلال الحقائق الدّامغة إلى استرجاعه، وبخاصة أن كل شيء موثق منهم ومن مؤرّخين شرفاء فرنسيين نحتاج، فقط، وبإرادة وحنكة، الاستخدام الجيد والأمثل مع إيلاء الملف الأهمّية والمكانة الأولوية من الجانبين، الأكاديمي السّياسي والاستراتيجي، مع إشراف مشترك من وزارات التّعليم العالي، الثّقافة، المجاهدين والخارجية وتوجيه/ قيادة من قصر المرادية، أي الرّئيس شخصيا.
على فرنسا أن تُدرك أنّ للمصالح الجزائرية في ملف الذّاكرة القيمة ذاتها مع المصالح الاستراتيجية في السّاحل أو ليبيا
تنتقل الوقفة الثّانية بالملفّ إلى الحركية بمؤشّر المبادرة، أوّلا، أكاديميا، للردّ على التّقرير الذي قدّمه المؤرّخ الفرنسي بنيامين ستورا للرّئيس ماكرون، وتضمّن مغالطات منهجية وتاريخية، إضافة إلى مواقف سياسية مشتركة لماكرون ولستورا جعلا منه (التقرير) لا حدثا بالنسبة للجزائريين، ولكن دون أن يبادروا إلى الردّ عليه، خصوصا أنّ ذلك تزامن مع استمرار فرنسا في التّلاعب بالملفّ من خلال الحقائق التي كشفتها "نيويورك تايمز" بشأن قضية الجماجم الجزائرية المستعادة.
أمّا الوقفة التّالية، فهي ذات صلة بالكفاءات الجزائرية التّي على عاتقها تحقيق هذا المبتغى، وهو مطلب حيوي، لأنّ الأهداف المُسطّرة لا تحتاج سواعد، فقط، بل دورة إدارة تتضمّن التّصوُّر الجيّد، التّشخيص ذا الكفاءة للإشكالات، إعدادا لمنظومة تنفيذ وتقييم مرحلي، وهي، كما يبدو، دورة إدارة تستدعي الكفاءة العالية لمواجهة ذات الكفاءة من الجهة المقابلة، أي الفرنسية، وربما الأداء في الملفّ لم يكن يُدار على هذه الأسس. ولهذا كانت المبادرة فرنسية والتلاعب فرنسيا لم يقابله إلا تشديد من الجهة الجزائرية بضرورة التقدّم في منجزاته، من دون احتساب جوانب تدعم الملف، وتحوله إلى تلك الرمزية الاستراتيجية الملحة والحيوية.
تبرز قضية الجماجم الجزائرية مقدار احترام فرنسا التزاماتها في ملف تصالح الذاكرة، وهو امتداد لالتزامات فرنسية أخرى في ملفات استراتيجية تشترك فيها مع الجزائر، على غرار ملف الانسحاب من مالي أو الانخراط في النزاع الليبي إلى غيرها من الملفات ذات الاهتمام المشترك، والتي تريد فرنسا، فيها، اليد العليا، ما يستدعي من الجانب الجزائري إدارة بالكفاءة في كل تلك الملفات، حتى لا تظن باريس أنّ ثمّة إمكانية للتّلاعب أو المفاوضة الماكرة في ملف ما. بل على صانع القرار الجزائري التعامل، هنا، بمقاربة الحزمة الكاملة التي تربط بين الملفّات جميعها، لا قيمة لملفّ على آخر، كما على فرنسا أن تُدرك أنّ للمصالح الجزائرية في ملف الذّاكرة القيمة ذاتها مع المصالح الاستراتيجية في السّاحل أو ليبيا، كما يجب أن تُدرك أنّ وضع مهاجرينا في فرنسا والمصالح الاقتصادية الثُّنائية أو في إطار الاتّحاد الأوروبي، كلُها ملفاتٌ مترابطة قد تشبه، إلى حدّ ما، استراتيجية البيوت الخشبية التي تحدّث عنها منظر السياسة الخارجية التُّركية، داود أوعلو، وهي استراتيجية تجعل من كلّ الملفّات في درجة الاهتمام نفسها، ولا يمكن لأحدها أن يبقى بدون تجسيد، وإلا كانت النتيجة احتراق/ تعثُّر بل جمود كلّ الملفّات الأخرى، وهو ما يدفع فرنسا إلى التفكير، مليا، قبل اتّخاذ قرار في التلاعب أو الإدارة الأُحادية لأيّ من نقاط الحزمة.
مرّت مقالة "نيويورك تايمز" عن تلاعب فرنسا في مسألة الجماجم الجزائرية المستعادة من دون رد من الرّئاسة أو وزارة الخارجية
مجرّد ذكر أنّ الملف سيكون أكاديميا، فترة، هو تجهيز لتلك المقاربة الجديدة، وهو الردّ الصّامت، من الجزائر، على قضية الجماجم التي تساءل، بشأنها، كثيرون في الإعلام، حيث مرّت مقالة "نيويورك تايمز"، وما كشفت عنه من حقائق من دون أن يكون ثمّة ردُّ من الرّئاسة الجزائرية أو وزارة الخارجية، لأنّ ما حدث كان يحتاج إلى ردّ، ولكن بعيدا عن ثرثرة وسائل التّواصل الاجتماعي وضوضاء الإعلام، بل وبعيدا، أيضا، عن أروقة السياسة، فتقرير ستورا ثم قضية الجماجم، إضافة إلى تعامل الإعلام الفرنسي والنُّخبة الفرنسية مع ملفّ تصالح الذاكرة، تؤكّد، بما لا يدع مجالا لشكٍّ ما، أنّ المقاربة الجزائرية تستدعي تغيُّرا كاملا، بل بناء جديدا يمحو، من الجذور، السّعي القديم، ويفتح الباب لاستراتيجية تتضمّن ما جرى ذكره.
تلك هي الرابطة الحيوية والملحّة بين ملف تصالح الذاكرة وبيان الرّئاسة، من حيث الدّعوة إلى التفرُّغ الأكاديمي، لأنّ إدارة الملفّ كانت بمقاربة الرّمزية التاريخية، وحتّى مع وجود تلك الرّابطة بين كلّ الملفّات، إلا أنّ الضّرورة القصوى، الآن، هي لإبراز أن لا علاقات جيدة ولا روابط في مجالات استراتيجية للبلدين، من دون التّوازن في الإدراك بأنّ المصالح إمّا أن تكون متبادلة وسيادية وبدون اجتزاء بعضها عن بعض، أو لا تكون، وربّما، هنا، يأتي ذلك القرار بالانضمام إلى تكتّل "بريكس" ومنح دور القاعدة التموينية لأوروبا للغاز الجزائري في روما، ضمن هذا التوجّه البراغماتي من الجزائر، ومعه رسائل موجّهة، بصفة علنية، لفرنسا، بأن ما حدث في تصالح الذاكرة لا يرقى إلى ما ترجوه الجزائر، وبأن الوقت قد حان لتغيير إدارة الملف، رأسا على عقب، ليصبح في إطار الإدارة الجديدة لكثير من نقاط ثقل الجزائر.
هذا هو الفهم الرّصين لاستراتيجية التّعامل الجديد في ملف تصالح الذاكرة الجزائرية بشأن فرنسا، وهو تعامل سينتج ذلك السّعي إلى إنجاز كبير يتضمن تجسيدا فعليا لثلاثية الاعتراف، الاعتذار ثمّ التّعويض، وليكون ذلك كلُّه في قلب التحرُّك لإنجاز القطيعة مع التّعامل السّابق في هذا الملفّ وفي غيره.