في تذكّر جورج طرابيشي
إياد شربجي
(أنس عوض)

حلّت في 16 مارس/ آذار الحالي ذكرى رحيل الكاتب السوري جورج طرابيشي في منفاه الاختياري باريس عام 2016، والذي رغم أهميته قامة فكرية، لم ينل ما يستحقه في غيابه، كما كان الأمر في حضوره.

ونحن نعيش اليوم مرحلة من تشتّت الهويات وغموض المصير، نتيجة تحوّلات كبرى ألمّت بشعوب المنطقة بعد الربيع العربي، ووضعت الجيل الجديد على أعتاب واقعٍ مختلف، تائهاً بين انتماءات وطنية وقومية وعقدية، وأحلام باستعادة ماضٍ مجيد لا يسمع عنه سوى في خطابات السياسيين وكتابات المفكرين وصراخ الأئمة على المنابر، وبين مستقبل آمن لا يراه سوى في تأشيرة سفر أو على يد مهرّب يوصله إلى شواطئ الغرب الذي يتآمر عليه، ونحن نعيش هذا الواقع، لا يمكن أن تمرّ ذكرى رحيل طرابيشي من دون العودة لنتاجه الذي ينوف على مئتي كتاب، ويصبّ كثير منه في نقد الواقع العربي وتحليله؛ وهو الذي تمكّن بفضل تفتّح مداركه على مصادر الثقافة المختلفة، وجمعه بين دراسة اللغة والتراث، وترجمته عشرات الكتب لروّاد الفلسفة والتحليل النفسي، كهيغل وبوفوار وسارتر وفرويد، وكتابته في النقد الأدبي والديني والفكري، فضلاً عن عدم انتمائه لنسق الأكثرية الذي ينمّط تفكير شعوب المنطقة.. تمكّن من كشف ما يدّعي أنها مواطن ضعف موضوعي في خطاب مشروع الفكر العربي المعاصر ورجالاته، أولئك الذين تصدّوا لتأسيس مشاريع نهضوية حداثية يستندون فيها إلى التراث العربي بوصفه مصدراً معرفياً ماضياً وحيداً يبحثون فيه عن خلاصٍ للأمة اليوم، وهو ما وجده طرابيشي مهمة فاشلة ونكوصية، حيث "يحلّ الخطاب التراثي المستقلّ عن ذاتية منتجيه، والقائم على واو الجماعة، مكان الفردانية" والتجربة والابتكار، فتحوّل المفكّر الباحث إلى راوٍ ومحدّث، وغاب النقد والتحليل والتفكيك اللازم لإنتاج المعرفة، لصالح "خطابٍ عربيٍّ عصابي يتمحور حول عقدة نفسية جمعية، تولّد سلاسل من ردود الأفعال المتطابقة، هدفها الأساسي تثبيت الماضي".

ولعل أشهر ما عمل عليه طرابيشي، على صعيد تحليل هذا الخطاب المأزوم، نقد المشروع الفكري النهضوي الأبرز "نقد العقل العربي" لمحمد عابد الجابري، والذي أنفق طرابيشي زهاء ربع قرن من حياته في تفكيكه عبر سلسلته "نقد نقد العقل العربي" التي قدّمها في أربعة أجزاء. والحقيقة أن مشروع الجابري كان أثيراً على قلوب جيلنا، واستقبلناه على اعتباره طوق نجاة في خضمّ بحر حضاري متلاطم، ليس لنا فيه مركب، نحن الذين تتعلّق قلوبنا وعقولنا بالتاريخ المجيد والماضي التليد الذي كنا عليه يوماً، والذي استطاع الجابري أن يستحضره ببراعة، ويستخلص منه مشروعاً نهضوياً واضح الملامح، رأيناه منتجاً أصيلاً يولد من رحم حقيقتنا، ويمكن أن ينهض بواقعنا، حتى اعتقدنا أن أية مدينة عربية، كالرباط أو القاهرة أو دمشق، مرشّحة لتتحول إلى فلورنسا، لمجرّد أن نعقد النية للنهوض.

عندما اطلع طرابيشي على كتب إخوان الصفا، فاكتشف فيها عكس ما ادّعاه الجابري من معاداتهم العقل، كانت اللحظة التي انهارت فيها صورة الجابري ومنهجه أمامه

وقد يكون ما اعتقدناه حينها مبرّراً عندما نعلم أن طرابيشي نفسه احتفى بـ "تكوين العقل العربي"؛ الكتاب الأول في سلسلة الجابري، وقال فيه "إن من قرأه لن يعود كما كان قبل أن يفعل"، وأضاف أن الجابري قد نقله من الأيديولوجيا إلى الأبستمولوجيا (المعرفة)، إلى أن حانت تلك المصادفة الفارقة عندما اطلع على كتب إخوان الصفا، فاكتشف فيها عكس ما ادّعاه الجابري من معاداتهم العقل، وهي اللحظة التي انهارت فيها صورة الجابري ومنهجه أمام طرابيشي؛ المترجم المولع بالمصطلحات وتدقيق التفاصيل، قبل أن يقرّر دراسة المصادر الأصلية للتراث والفقه التي اعتمد عليها الجابري في مشروعه، ويكشف ما اعتبرها سقطاتٍ لا تغتفر ولا يمكن تجاوزها من أكاديمي وأستاذ جامعي، وجده يغلّب الأيديولوجي على المعرفي، ويمارس الانحياز التأكيدي، وينتقي من التراث ما يناسب رؤيته ويدعم حجّته، ويتجاهل ما يخالفه وينفيه من المصدر نفسه، مستبدلاً مهمته باحثاً ليقوم بدور المبشّر.

لم ينكر الجابري هذا الاتهام، بل أقرّ بممارسته الانتقائية في التراث، ودافع عنها انطلاقاً من اعتقاده بنفسه مثقفاً قومياً ملتزماً، موضحاً أن معركته تأسيس ما يناسب الأمة ويخدمها ويساهم في رفعتها، وكأن به يقول إن لدينا ما يكفينا في تاريخنا، ولسنا في حاجةٍ لأحد لننهض، لكنه تجاهل هنا ثلاث حقائق أساسية: الأولى منهجية؛ تتعلّق بطريقة تعامل المثقف الباحث مع التاريخ والواقع وإنتاجه المعرفة وتقديمها للجمهور، والثانية فيزيائية تتعلق بالفجوة الزمنية الهائلة بين الماضي والحاضر، وأن ما كان ليس ما سيكون، وحقيقة ثالثة تأريخية تؤكد أن نهضة الحضارة الغربية الحديثة، كمثال متجلٍّ أمامنا، لم تبنَ بالانزواء والاكتفاء بالتراث، بل أيضاً بالتفاعل والامتصاص وقبول منتجات ومعارف الآخرين وإيجاد مكان لها في ماكينة النهضة، دونما خشية من العناوين العصبوية كتلك التي نسمعها من مفكرينا وهم يتحدثون عن الأصالة أو الاستلاب أو الغزو الثقافي.

بحسب طرابيشي، لم يكتف الجابري بالانتقائية الكيفية فحسب، بل مارس التلفيق والتشويه عبر إيراد شواهد "مغلوطة ومقطوعة من سياقها ومفسّرة من غير سياقها"

وبحسب طرابيشي، لم يكتف الجابري بالانتقائية الكيفية فحسب، بل إنه مارس التلفيق والتشويه عبر إيراد شواهد "مغلوطة ومقطوعة من سياقها ومفسّرة من غير سياقها"، جرى تعميمها بوصفها مفاهيم عامة، كما برز فيما نقله عن مفكري الغرب، مثل ديكارت وفولتير، انطلاقاً من كتيّب صغير تحدث عنهم، وليس من أمهات الكتب، كما كشف فشلاً آخر أكثر غرابة واستنكاراً في منهج الجابري، وهو انحيازه الجغرافي الواضح، وبناؤه جداراً تاريخياً معرفياً بين المشرق والمغرب العربيين، عزّز فيه مكانة ابن رشد، وجعل الأندلس والمغرب العربي منتجاً للفكر والفلسفة، فيما حمّل ابن سينا والغنوصية والشيعية مسؤولية العقل المستقيل، متّهماً الشرق بإنتاج السلفية والأصولية، وهو ما عدّه طرابيشي جريمة كبرى ومذبحة للتراث، وخيانة للمعرفة ومبدأ النقد الذي يستوجب الأمانة في التعامل مع الحقائق والأفكار من جوانبها وسياقاتها كافّة، بغض النظر عن تمثّلها أيديولوجية المفكر، إذا ما كان هدفه حقاً المعرفة.

ورغم أن تصدّي طرابيشي كان موجّهاً إلى الجابري بشكل رئيسي، إلا أنه اتخذه نموذجاً لحال سواه من المفكرين النهضويين العرب، والذين استعرض أقوالهم وفكّك خطابهم نفسياً في كتابه "المثقفون العرب والتراث.. التحليل النفسي لعصاب جماعي"، واصفاً إياهم بأصحاب العقل التراثي الذي "ينتمي للعصر الوسيط، والذي لم ينتقل بعد إلى عصر الحداثة"، ولا يمكن أن ينتج خطاب نهضة.

وبالعودة إلى الحاضر، ومع تكسّر موجات الربيع العربي على شطآن الواقع، وما آلت إليه الأمور من تفككٍ عميق؛ ثقافي وسياسي واقتصادي، وحتى ديموغرافي، وغياب لمشروع إدارة مجتمعي آمن مؤهل ليكون بديلاً عن الأنظمة الديكتاتورية التي تسوّي الأمور بالقوة والنار، نجد أن ما يجري حالياً لم يخرج بعد من الأطر التي رسمها الجابري وسواه للجمهور، إذ ما زال المزاج العربي العام يجترع الخطاب نفسه والمقولات نفسها إن مجدهم موجود في تاريخهم، ولا يتطلّب الأمر سوى التقاطه، لكنه لم يُخبرهم كيف يفعلون ذلك وبأي وسيلة، فأحال الرأي العام تفسيراته الواقع وفق هذا التصوّر الضبابي، فأصبح سبب كوارثهم هو الابتعاد عن الدين، وسبب فشلهم التآمر عليهم، وفسادهم سببه الاستلاب للغرب، أما حلولهم لهذا الواقع فمن التراث نفسه أيضاً، فالعدالة لا تأتي بتطبيق مبادئ المواطنة والمساواة الكاملة وحياد الدولة تجاه العقائد مثلاً، بل بانتظار شخصٍ مثل عمر بن الخطاب، وترقّب نصر يأتي على يد حفيد لصلاح الدين، واستعادة مجدٍ لن يأتي إلا بالعودة إلى الأصول والتمسّك بها، وهي هنا السلفية، التي للمفارقة انتقدها الجابري ومارسها هو نفسه.

لم يكن طرابيشي عدمياً، ولم ينظر إلى المشهد من زاوية السوداوية وجلد الذات أو الاستلاب والاغتراب

لم يكن طرابيشي عدمياً، ولم ينظر إلى المشهد من زاوية السوداوية وجلد الذات أو الاستلاب والاغتراب، كما طاب لبعضهم وصفه في خلطة عجيبة على اعتباره علمانياً ماركسياً مسيحياً، فقد دعا إلى كسر هذه الحلقة المفرغة التي تكرّر نفسها، عبر ممارسة النقد ونقد النقد محرّكاً لماكينة الفكر، وهو ما أمله من الجابري لفتح حوار بينهما، لكن الأخير تعفّف وتجاهل، بل نظر إلى طرابيشي على أنه غير مؤهل لمنافحته، كونه لا يحمل شهادة الدكتوراه مثله، وهذه وجدها كثيرون سقطة أخرى لمشروع الجابري، لا ترتقي إلى ما ذهب إليه في طرح مشروعٍ بهذا الحجم يروم منه تغيير أمة، بل سلك مسلك المشايخ ومعتلي المنابر الذين يقابلون أسئلة الناس المشكّكة بدعوتهم إلى الإنصات والتسليم لأهل العلم، كونهم أعلى مرتبة وفهماً من العوام. ورغم هذا السلوك الجابري الخارج عن التقاليد والأصول المنهجية والأخلاقية لأكاديمي، إلا أنه كان لدى طرابيشي من الاحترافية والنبل ما يكفي ليرثي الجابري حين موته، ويعترف بفضله في فتح مداركه على التراث العربي.

يلخّص طرابيشي نظرته إلى واقع الأمة التراثية في أن "الآليات التي أدّت إلى استقالة العقل وغروبه في الحضارة هي آلياتٌ داخلية نابعة من انكفاء ذاتي ومن انكماش لهذا العقل على نفسه، وليس من غزوة خارجية"، فهل سيتحرّر مفكّرو التراث من هذا الانكفاء الذاتي، ويعترفون يوماً بأن دعوتهم إلى الحفاظ على الماضي هي بالذات الغزوة التي تبقينا في الماضي؟