في تحريم التلفزة الوطنية التونسية على الأحزاب

في تحريم التلفزة الوطنية التونسية على ممثلي الأحزاب

26 مايو 2022
+ الخط -

لا تتضمّن وثيقة "السياسة التحريرية لمؤسسة التلفزة الوطنية في تونس (28 صفحة)" ما يفيد منع الأحزاب السياسية من المشاركة في البرامج الحوارية والسياسية. وعلى عكس ذلك، تدعو الوثيقة، التي تعدّ مرجعا ديو - أنطولوجيا في ممارسة المهنة الإعلامية، التلفزيون الوطني وصحافييه إلى تغطية نشاط الأحزاب في أثناء الحملات الانتخابية والأشغال البرلمانية من دون تمييز بينها، إلا في مستوى أحجام تمثيلياتها الشعبية، في نطاق الحياد التام والإنصاف والنزاهة. وهو ما حاولت المؤسسة الإعلامية العمومية الالتزام به بعد رحيل نظام الرئيس زين العابدين بن علي، ونشأة الديمقراطية التونسية الفتية التي قامت على حق الأحزاب السياسية في الظهور الإعلامي العمومي والخاص، وتغطية أنشطتها والمشاركة في البرامج الحوارية. وقد تُرجم هذا التوجه عمليا في أثناء كل المحطات السياسية التي عاشتها تونس بدون استثناء. وهي بذلك تنفّذ ما جاء في الفصل 35 من الدستور التونسي لسنة 2014 أن "حرية تكوين الأحزاب والنقابات والجمعيات مضمونة"، وما ورد في الفصل عدد 32 "تضمن الدولة الحق في الإعلام". ولكن الظاهر للعيان اليوم هو الغياب الكامل لظهور ممثلي الأحزاب السياسية عن منابر التلفزة الوطنية التونسية، وذلك بداية من 25 جويلية (يوليو/ تموز) 2021 اليوم الذي ستتمركز فيه جميع السلطات لدى الرئيس قيس سعيّد، بعد أن كان الإشراف على هذه المؤسسة من صلاحيات الحكومة ورئيسها، التي كانت تنال الثقة من البرلمان وتخضع لرقابته. ينسجم حرمان ممثلي الأحزاب السياسية من الحضور في التلفزيون الوطني مع نمط التفكير السياسي للرئيس سعيّد، الذي يرفض التعامل مع الأحزاب، ولا ينظر إليها عناصر رئيسية في العملية الديمقراطية. وهذه خلفية قديمة تعود إلى ما قبل الانتخابات الرئاسية، وتحديدا إلى 12 يونيو/ حزيران سنة 2019، حينما صرّح سعيّد لإحدى الصحف المحلية (الشارع المغاربي) قائلا "الديمقراطية النيابية في الدول الغربية نفسها أفلست وانتهى عهدها"، وأن "الأحزاب جاءت في وقت معيّن من تاريخ البشرية، بلغت أوجها في القرن الـ 19 ثم في القرن الـ 20 ثم صارت بعد الثورة التي وصلت إلى مستوى وسائل التواصل والتكنولوجيات الحديثة أحزاباً على هامش الدنيا في حالة احتضار، قد يطول الاحتضار، لكن بالتأكيد بعد سنوات قليلة سينتهي دورها". فالأحزاب، وفق توجه سعيّد، عبء على الديمقراطية الحقيقية المسمّاة البناء القاعدي (مزيج بين الفكرة المجالسية القديمة لليسار الماركسي وديمقراطية الأسياد الأثينية المباشرة)، ولا تستوجب أجساما وسيطة، مثل الأحزاب والنقابات والجمعيات وكل مكونات المجتمعين السياسي والمدني، فالعلاقة بين الرئيس والشعب هي شبيهة، كما يفسّرها كبار الحملات التفسيرية للرئيس، بالعلاقة بين الله والبشر، عمودية مباشرة لا تستوجب أي وساطة، غير أنها تنطلق من الأسفل إلى الأعلى، على قاعدة مقولة "الشعب يريد"، فيلتقط الرئيس ماذا يريد الشعب فيما يشبه الحلول والإشراق عند المتصوّفة. ولكن في هذه المرّة ليس حلولا للذات البشرية في الذات الإلهية، كما بشّر بذلك الحلاج وابن عربي، وإنما هو حلول في الذات الشعبية أو استلهام إرادة الشعب من الرئيس والاستجابة لرغبته وكتابة دستوره الحقيقي الذي خطّه شبابه على الجدران، كما أقرّ بذلك الرئيس نفسه يوم 8 يناير/ كانون الثاني 2020. وعلى هذه الأرضية، لم يعترف سعيّد بأيٍّ من الأحزاب السياسية، ولم يجالس قياداتها بصورة رسمية إلا قليلا، بما في ذلك الأحزاب التي أبدت تأييدا لمسار 25 جويلية (يوليو/ تموز 2020) ودعمت الرئيس من دون تحفظ أو تشريك لها في ما يتّخذه من قرارات سياسية وإجراءات قانونية واختيارات مجتمعية وعلاقات إقليمية ودولية، ولم يأت لها موقع في النصوص المنظمة لجمهوريته الجديدة واللجنة الاستشارية، وما سينبثق عنها من لجان فرعية ستتولى الحوار الوطني وإعداد دستور جديد يعرض على الاستفتاء يوم 25 يوليو/ تموز 2022.

الحكمة اليوم ليست في غلق الحكام الإعلام العمومي أمام أصحاب الرأي المخالف، وإنما في أخذ العبرة من تجارب السابقين

تهميش الأحزاب السياسية وإقصاؤها بعد 25 يوليو/ تموز 2021، والحيلولة دون تمكينها من ممارسة حقها في استخدام قياداتها ورموزها منابر التلفزة الوطنية، وإبلاغ أصواتهم وبرامجهم وأفكارهم إلى عامة الناس، يتنافى مع ما جاء في الفصل الخامس من المرسوم عدد 87 لسنة 2011 المتعلق بتنظيم الأحزاب السياسية الذي جاء فيه "يُحجر على السلطات العمومية عرقلة نشاط الأحزاب السياسية أو تعطيله بصفة مباشرة أو غير مباشرة"، ولا يساعد على تطبيق ما ورد في الفصل الثاني من القانون نفسه أن "الحزب هو جمعية تتكون بين مواطنين تونسيين يساهم في التأطير السياسي للمواطنين، وترسيخ قيم المواطنة، ويهدف إلى المشاركة في الانتخابات قصد ممارسة السلطة في المستوى الوطني أو الجهوي أو المحلي"، فالأحزاب التونسية التي يموّل منخرطوها وأنصارها التلفزة الوطنية، كغيرهم من دافعي الضرائب في تونس، لا تختلف مع سعيّد في مقاربته السياسية القاعدية الخالية من الانتماءات الحزبية فقط، وإنما هي بمثابة المنافس الجدّي له، ولمشروعه القائم على التنسيقيات المحلية وصفحات السوشيال - ميديا والمجموعات المغلقة الفيسبوكية (البناء القاعدي الافتراضي) التي تستخدم تقنية البيغ- داتا، ما يساعد على الوصول إلى جمهور واسع، خصوصا وأن هذا المشروع تعرّض إلى ضربة موجعة بعد رفض الاتحاد العام التونسي للشغل الانخراط فيه، وبدأ في التآكل والتلاشي وفقدان الشعبية والزخم الذي كان يتمتّع به عشية الانتخابات الرئاسية سنة 2019، وفي أثناء لحظة 25 يوليو/ تموز الاحتجاجية في صيف 2021.

لقد أقرّ بمنع ممثلي الأحزاب السياسية من التعبير عن مواقفهم في البرامج الحوارية للتلفزة الوطنية نقيب الصحافيين التونسيين في تصريح إذاعي يوم 11 يناير/ كانون الثاني 2022 قائلا "هناك قرار سياسي يقضي بمنع حضور ممثلي الأحزاب السياسية في التلفزة التونسية التي يدفع المواطنون أداءاتها"، وندّدت به النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين في أكثر من مناسبة، ورصدته الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، من دون أن تشير بوضوح إلى مخاطر هذا الخيار على مستقبل العملية الديمقراطية. واعتبره الأمين العام لحركة الشعب، ذات الخلفية العروبية والمؤيّدة لمسار 25 جويلية في تصريح له يوم 18 يناير/ كانون الثاني 2022 "مسألة خطيرة ومرفوضة، سواء يقف وراء ذلك رئيس الجمهورية أو الرئيس المدير العام للتلفزة الوطنية". وقال بيان للحركة نفسها "نعبّر عن استغرابنا من هذا القرار الذي يتنافى وأبسط مقوّمات الحياد المهني والإعلامي من مرفق عمومي هو ملك لجميع التونسيّين والتونسيات".

غلق التلفزة الوطنية في وجه قادة الأحزاب السياسية هو "بروفا" عن نمط تعاطي "النظام الرئاسي" القادم، إن كُتب النجاح لمسار سعيّد

غلق التلفزة الوطنية في وجه قادة الأحزاب السياسية هو "بروفا" عن نمط تعاطي "النظام الرئاسي" القادم، إن كُتب النجاح لمسار سعيّد، مع الأحزاب السياسية والعملية الديمقراطية ككل، وهو في حقيقته إعادة إنتاج للمنع الذي كانت تتعرّض له التنظيمات السياسية من حقها في ظهور في الإعلام العمومي في زمني الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين بن على (1956-2011)، واحتكار صوت الرئيس وخياراته التلفزة الوطنية، وكذا من يعبّر عن ذلك الصوت، وتغييب الرأي المخالف والمعارض بشكل كامل. وعلى الرغم من ذلك، لن يغيب هذا الرأي المخالف، ولا يستطيع أحد نفيه وتغييبه، وسيجد نفسه مجبرا على هجرة التلفزيون الوطني العمومي الذي يخسر يوما بعد آخر متابعيه ومريديه، إلى التلفزيونات الخاصة ونظيرتها الأجنبية التي تدخل بيوت التونسيين وغير التونسيين بدون استئذان من أحد.

لم يتفطّن القائمون على التلفزة الوطنية التونسية وأصحاب القرار السياسي الذي يمنع الأحزاب من الظهور إلى أن البشرية تخطّت مرحلة الإعلام إلى عصر الاتصال الذي ظهر فيه المواطن المدوّن والمواطن الصحفي الذي يمكنه أن يحوّل مادة إخبارية هاوية تنتشر من خلال "السوشيال ميديا" إلى عمل إعلامي محترف، تلتقطه كبرى المحطات التلفزيونية، وتعيد بثّه ليصل إلى الجمهور الواسع. بينت التجارب مدى نجاعته في سقوط أنظمة وحكومات ورؤساء وصعود آخرين، والحكمة اليوم ليست في غلق الحكام الإعلام العمومي أمام أصحاب الرأي المخالف، وإنما في أخذ العبرة من تجارب السابقين، والإيمان بالتعدّد والتداول السلمي على السلطة وإعداد الخروج الآمن من الحكم على قاعدة الكلمات الخالدة "لو دامت لغيرك لما وصلت إليك".