في تبعات أحداث فرنسا

في تبعات أحداث فرنسا

01 نوفمبر 2020
+ الخط -

(1)

مكانة الرسول عليه الصلاة والسلام أرفع وأجل وأسمى من أن يمسّها بشر، ومكانته أكبر من أن تسيء إليه عدة رسومات من متطرّفين. تعرّض منذ نزول الرسالة للتشكيك والتشويه، ولم ينتقص ذلك من مكانته لدى المسلمين المؤمنين، ولم ينتقص ذلك من الدين شيئا، بل تزيد تلك الإساءات المؤمنين إيمانًا. عند حدوث ذبح المدرس الفرنسي، صموئيل باتي، كتبت على مواقع التواصل الاجتماعي بما فيه ذلك المعنى، ولكني تساءلت أيضا: هل نصر الشاب الشيشاني رسولنا الكريم بذبحه المدرس الذي أصرّ على عرض الرسوم المسيئة؟ هل حقق الشاب فائدة كبيرة للإسلام والمسلمين بما فعله؟ وهل هكذا نصر الإسلام والرسول الكريم؟ وهل بهذا أمرنا الله؟

كانت ردات الفعل متنوعة كأي موضوع خلافي، فهناك من اتفق مع وجهة نظري، وذكّرني بالآية الكريمة في سورة النساء "وإذا سمعتم آياتِ اللهِ يُكفرُ بها ويُستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره"، وكذلك الآية في سورة الأنعام "ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدْوًا بغير علم". ولكن أيضا قُوبلت بسيلٍ من رسائل غاضبة ترى أن الشاب الشيشاني فعل الصواب فهو غيور على دينه، وأن ما فعله هو اللغة المناسبة للرد على المتطاولين على النبي والإسلام. وقد دخلت في أحد مجاميع (غروبات) التسويق على "فيسبوك"، فوجدت منشورا لمتابعة، فقوبلت بمئات الرسائل الغاضبة من رأيي، يرون قتْل المدرس أمرا طبيعيا، ونتيجة حتمية لما قام به المدرس من إصرار على عرض الرسومات المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، جمهور عريض من المسلمين قد يكون الأغلبية يوافقون أن الرد على الرسومات هو قطع رأس المدرس.

هناك مبرر بالطبع لذلك الغضب من تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون المتوالية التي تستهدف الإسلام، (اضطر تاليا إلى شيء من التراجع عنها، وشرحها بالقول إنه تم تحريفها)، والذي يبدو أنه يستخدم خطابا يمينيا شعبويا لزيادة شعبيته. الحادث بالتأكيد مرعب في الداخل الفرنسي، وليس الأول من نوعه، ولذلك كانت كل تلك الإدانة. ولكن كان من العجيب أن يخوض رأس الدولة حملة تحريض واستفزاز بنفسه، ويضع نفسه في مواجهة أكثر من مليار ونصف المليار مسلم في العالم، ويستخدم خطابا يمينيا يزيد من مشاعر العداء ضد الإسلام وزيادة ظاهرة الإسلاموفوبيا. هل كان ماكرون يغازل اليمين الفرنسي بعد انخفاض شعبيته، وتزايُد أعداد المهاجرين من أصول عربية؟ وهل يدرك أن تلك التصريحات التي يعتبرها كثيرون عدائية سوف تشجع مسلمين آخرين على القيام بأعمال قتل أخرى، من أجل الدفاع عن الإسلام، من وجهة نظرهم.

عجيب أن يخوض رأس الدولة حملة تحريض واستفزاز بنفسه، ويضع نفسه في مواجهة أكثر من مليار ونصف المليار مسلم في العالم

عقلاء ووسطيون كثيرون أيضا يستهجنون سلوك ماكرون وتصعيده الشعبوي، فهل استفزاز ماكرون مشاعر أكثر من مليار ونصف المليار من المسلمين يعتبر جزءا من حرية التعبير؟ تعتبر بعض الكتابات أن القاتل الحقيقي هو الرئيس ماكرون الذي يصر على معاداة الإسلام والمسلمين بتصريحاته، والإصرار على إعادة نشر الرسوم. وهناك أيضا من يحمّله عواقب ما قد ينتج عن تصريحاته الاستفزازية، منهم رئيس وزراء باكستان، عمران خان، الذي خرج بتصريحات قوية ضد تصرفات ماكرون وتصريحاته، واعتبر أن ما يدفعه ماكرون سيكون وقودا ومحفزا لمتطرفين آخرين يسعون إلى الرد عليه.

(2)

كثيرون الآن يتذكرون التاريخ الاستعماري الفرنسي، ففرنسا نفسها التي تزعم الدفاع عن قيم الحرية والمدنية وحرية الرأي والتعبير هي التي لها تاريخ طويل في الاستعمار واستعباد الشعوب، وهي فرنسا التي قتلت الآلاف، وأعدمت واغتالت مناضلين في بلدانهم الأصلية، وهي فرنسا التي ارتكبت مذابح وقتلت من الأبرياء أعدادا تفوق أعداد ضحايا الإرهاب، وهي فرنسا نفسها التي لا يزال لها ممارسات استعمارية عديدة في إفريقيا، وهي فرنسا نفسها التي دعمت مستبدّين في العالم العربي، ولا تزال.

هل تتحمّل فرنسا انتقاد الصهيونية مثلا، أو أي تشكيك في أعداد ضحايا الهولوكوست؟

تذكرت مقارناتٍ قرأتها قديما عن الثورتين الإنكليزية والفرنسية والفارق بينهما، وحيث كانت الثورة الإنكليزية الكبرى هادئة، وأفرزت نظاما أكثر استقرارا مقارنة بالثورة الفرنسية الهادرة الدموية التي لم تفرز نظاما مستقرا إلا بعد عدة عقود. وكذلك يمكن مقارنة النظامين، السياسي والقانوني. وهناك كتابات كثيرة ترى أن الديمقراطيات الناتجة عن الاستعمار الفرنسي مليئة بالمشكلات، مقارنة بتلك الناتجة عن الاستعمار البريطاني أو الأنغلوساكسونية، وإن كان كلاهما استعمارا.

نحن شعوبٌ مستهلكة وغير منتجة، تستورد كل شيء وليس عندها اكتفاء ذاتي ولا مشروعات حقيقية للتصنيع، حتى يكون هناك تفعيل حقيقي لسلاح المقاطعة

تساؤلات أخرى ذات وجاهة أثارها بعضهم: هل تتحمّل فرنسا انتقاد الصهيونية مثلا، أو أي تشكيك في أعداد ضحايا المحرقة (الهولوكوست)، فهناك من تمت إحالته إلى المحاكمة، حين شكك في مبالغات قصص "الهولوكوست" ومروياته، كالمفكر الفرنسي روجيه غارودي. ومنذ بدايتها، دخل الرئيس التركي، أردوغان، على الخط كما يُقال، فقد هاجم ماكرون بقوة، وشكك في قواه العقلية، ما زاد من التوترات بين فرنسا وتركيا، وأصدرت الخارجية الفرنسية بيانات إدانة لتصريحات أردوغان، وكذلك فعل الاتحاد الأوروبي الذي استهجنها بشدة، وكذلك فعلت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وكان التراشق التركي الفرنسي مثار حديث وسائل الإعلام الدولية عدة أيام. ويرى بعضهم ما قاله أردوغان مجرد تصفية حسابات، بسبب الخلافات الجيوسياسية القائمة بين البلدين، واختلاف التوجهات في قضايا عديدة، مثل الوضعين في ليبيا وفي سورية، واعتراض فرنسا ماكرون على تصريحات وتحركات تركية عديدة في الشرق الأوسط وشرق المتوسط. وهناك أيضا من يرى أن الرئيس التركي يستغل الأزمة، ليعزّز مكانته زعيما للعالم الإسلامي، فيستخدم خطابا شعبويا يدغدغ مشاعر المسلمين في العالم، وهو ما استفز حكومات عربية لديها مصالح كبيرة مع الغرب وفرنسا، وتفاهمات معها في قضايا مثل ليبيا وشرق المتوسط وتدفقات المهاجرين، فتحاول تلك الحكومات توجيه بعض الانتقادات على استحياء، حتى لا تعادي مشاعر شعوبها. في الوقت نفسه، هناك حكومات عربية أخرى لا تستطيع تنحية مشاعر العداء لتركيا في مثل تلك المواقف، فترى أن مقاطعة تركيا مقدّمة على مقاطعة فرنسا.

سيظل هناك متطرّفون في كل الأديان، يَرَوْن أن دينهم هو الصواب، وأن الآخر على باطل

ولكن هل المقاطعة سلاح فعال؟ سؤال سألته لنفسي، عندما أتذكر حملات مقاطعة البضائع الأميركية أيام انتفاضة الأقصى أو حرب العراق، فلم تفلح كثيرا ولم تشكل تهديدا كبيرا للولايات المتحدة وقتها، فنحن شعوبٌ مستهلكة وغير منتجة، تستورد كل شيء وليس عندها اكتفاء ذاتي ولا مشروعات حقيقية للتصنيع، حتى يكون هناك تفعيل حقيقي لسلاح المقاطعة. ولكن يبدو أن فرنسا غير الولايات المتحدة، فقد صدرت تصريحات تستهجن الدعوات إلى مقاطعة السلع الفرنسية، وتعتبرها تصعيدا غير مبرّر، ولكن بشكل عام ردة فعل كالمقاطعة أفضل بكثير من التفجيرات وقطع الرؤوس. ويقودنا ذلك إلى سؤال آخر: هل ستكون ردة الفعل ذات استمرارية، أم كما تراهن بعض التحليلات إن ذلك مجرد ردة فعل عاطفية (وطق حنك) وتفريغ شحنات؟ وقد سخرت مقالات في صحف أوروبية من حرب الهاشتاغات العربية التي يكتفي بها العرب في كل حدث، ويعتبرونها حربا حقيقية أو انتصارا كبيرا، فهل يمكن اعتبار الهاشتاغات التي تطالب بحظر حساب ماكرون على "تويتر" من أنواع النصر للإسلام؟ ففي كل إساءة للإسلام أو الرسول يكون هناك ردة فعل جماهيرية غاضبة في العالم الإسلامي، يقابلها شجب واستنكار حكومي رسمي على استحياء، يتحوّل بعد فترة إلى نسيان وصمت تام، فليس للشعوب بشكل عام وزن لدى حكامها.

الموضوع معقد كالعادة، قد يكون هو الأكثر تعقيدا في عصرنا الحديث، وأيضا منذ عدة قرون، فالإساءات والرسومات المسيئة لم تتوقف منذ أكثر من 15 عاما. وستظل الأديان والعصبية مصدر خلافات ومحور صراعات وحروب. وسيظل هناك متطرفون في كل الأديان، يَرَوْن أن دينهم هو الصواب، وأن الآخر على باطل، وسيظل هناك من يلجأ إلى العنف، وسيظل هناك من يفجرون أو يذبحون هنا وهناك، ظناً منهم أن ذلك في سبيل الله. حتى أن بعض العلمانيين أيضا أصوليون، ويعتبرون الإساءة للأديان واستفزاز المؤمنين بها أسمى أهدافهم، على الرغم من أن كل الأديان يفترض أنها جاءت لنشر السلام والخير. وعلى الرغم من أن العلمانية يُفترض أنها في الأساس للخروج من الصراعات والتحيزات والتميزات الناتجة عن الأديان. ولكن لإيجاد حل لتلك المشكلات، وهذا من ضروب الخيال، يتطلب عدة ثورات فكرية وإصلاحات جديدة، تشبه التي قادت إلى نظريات العقد الاجتماعي، أو يتطلب مجهودات كثيرة، فكرية واجتماعية وسياسية، من أجل إيجاد ميثاق للتعايش بين الجميع، كأطروحة رومانسية لم ينجح أحد في تحقيقها.

DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017