في تآمر السلطة التونسية
على وقع المحاكمات السياسية، تشهد تونس جدلاً واسعاً بشأن قيمة العدالة واستقلالية القضاء واستعمال السلطة التنفيذية أجهزةَ الدولة، جميعها من دون استثناء، لتلفيق التهم للمعارضين ورميهم في المعتقلات، وتكميم أفواههم.
بدايةً، يجب التذكير بأن الرئيس قيس سعيّد، منذ توليه السلطة، خاصّة بعد قرارات 25 يوليو (2021)، حوّل السلطة القضائية وظيفةً، وأكّد ذلك مراراً. وفي فبراير/ شباط 2022 أصدر مرسوماً رئاسياً يأمر بحلّ المجلس الأعلى للقضاء، وهو الهيئة الدستورية المسؤولة عن ضمان استقلالية القضاء، وعيّن بدلاً منه مجلساً مؤقّتاً يملك الرئيس سلطة التأثير في تشكيله.
في إثر ذلك (في يونيو/ حزيران 2022)، أصدر الرئيس مرسوماً يقضي بعزل 57 قاضياً، متهماً إياهم بالفساد وحماية الإرهابيين، من دون المرور بالإجراءات التأديبية المعتادة. لاحقاً، اعتبرت المحكمة الإدارية قرارات العزل تعسّفية، وبرّأت جلّ القضاة من التهم، وقضت باستئنافهم مهامهم، إلا أن السلطة التنفيذية ممثّلةً في وزارة العدل ترفض (إلى اليوم) الامتثال لهذه الأحكام القضائية.
استغلّ سعيّد صلاحياته الاستثنائية لإصدار مراسيم من دون رقابة برلمانية، ما سمح له بإعادة هيكلة النظام القضائي بما يخدم مصالحه السياسية، كما استخدم خطاباً شعبوياً يهاجم فيه القضاة علناً، متّهماً إياهم بعرقلة العدالة وخدمة مصالح مشبوهة، ما أدى إلى هرسلة القضاة، وأشاع مناخاً من التخويف في داخل المؤسّسة القضائية، سيّما وقد عمدت وزارة العدل إلى استهداف قضاةٍ عديدين حاولوا النأي بالعدالة عن حسابات السلطة والسياسة، ومعاقبتهم عبر نُقلٍ تعسّفية من دون ضوابط أو معايير.
في إحدى جولاته أخيراً في العاصمة، سألت مواطنةٌ الرئيسَ التدخّل في قضية شخصية لها منشورة لدى المحكمة، فردّ عليها مزمجراً أنه لا يد له في القضاء بأيّ شكل، في مشهد مصوّر بثّته صفحة رئاسة الجمهورية، وهي رسالةٌ حاول قيس سعيّد (أو فريقه) التوجّه بها، عساها تخفّف من حدّة الاتهامات الموجّهة إليه داخلياً ودولياً، ولكنّها رسالة ضعيفة أمام وقائع ومعطيات، بعضها أعلاه، وتصريحات سابقة كان قد توجّه بها سعيّد ضدّ استقلالية القضاء، مهدّداً حرّاس العدالة، منها ما صرّح به في إحدى زياراته وزارة الداخلية، في فبراير/ شباط 2023، معلّقاً على أحكام تقضي بإطلاق سراح متّهمين من المعارضة في قضية ما يسمّى "التآمر على أمن الدولة"، قائلاً إن من تم اعتقالهم مجرمون وإرهابيون دانهم التاريخ، ومن يبرّئهم فهو شريك لهم، قاطعاً الطريق أمام عدالة القضاء ونزاهة التحقيقات والمحاكمات.
استغلّ سعيّد صلاحياته الاستثنائية لإصدار مراسيم من دون رقابة برلمانية، ما سمح له بإعادة هيكلة النظام القضائي بما يخدم مصالحه السياسية
وقد كان لتهديدات قيس سعيّد في قضية التآمر على أمن الدولة الشهيرة في تونس، ويُتّهم فيها ثلّة من قادة الأحزاب والشخصيات السياسية، أثرٌ ملحوظٌ في مسارها، شكلاً ومضموناً، باختلاق رواياتٍ لا أثر لها، وإقحام موتى في الملفّ مثل القيادي في الاتحاد العام التونسي للشغل، بوعلي المباركي، الذي تُوفِّي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، (قبل انقلاب سعيّد بحوالي ثمانية أشهر)، واستجلاب وشاةٍ من داخل السجون لتقديم شهاداتٍ مزوّرةٍ طمعاً في تخفيف عقوباتهم، وترجمةٍ محرّفةٍ لحواراتٍ خاصّة بلغات أجنبية، كما تعدّدت الخروق التي يمكن وصفها بالمهازل إلى حدّ قرار المحكمة المعنية بالنظر في الملفّ بعقد جلسة يحضرها المتّهمون من بعد، وهو ما اعتبره المعتقلون وهيئات دفاعهم تعدّيا صارخا على شروط المحاكمة العادلة وحقّ الدفاع.
يقول موالون للسلطة إن الملفّ جدّي وخطير، ويؤكّد الرئيس سعيّد مشاركة المتّهمين في مؤامرة ضخمة تستهدف البلاد. في مقابل ذلك، يطالب المعتقلون بمحاكمة علنية تبثّها وسائل الإعلام للرأي العام، لتتكشّف الحقائق للناس، ويتبيّن الخيط الأبيض من الأسود، بينما ترفض السلطة حتى حضورهم في قاعة المحكمة ومواجهتهم بتهمهم، في ضرب لأدنى شروط المحاكمة العادلة.
يشار في هذه القضية (بحسب التهم الموجهة للمعتقلين فيها يمكن أن تصل عقوبتها إلى الإعدام)، إلى أن مدير الشرطة العدلية، الذي أثار الملفّ، سُجن لاحقاً رفقة مستشار لدى وزيرة العدل، كان أحد العناصر المؤثّرة في القضية، إذ قبض على كليهما بتهم فساد، هذا إلى جانب ما يفيد بأن قاضي التحقيق، الذي حكم بالاحتفاظ بالمتّهمين منذ نحو عامين، قد فرّ من البلاد، من دون شرح أو توضيح، وأصدرت فيه السلطة بطاقة جلب، وفق بعض المصادر. وتؤكّد جميع هذه المعطيات تآمر السلطة التونسية على المعارضة، وعلى عدالة القضاء، وعلى السلم والاستقرار المجتمعيَّين، بافتعال المكائد لإقصاء الخصوم السياسيين، إلى حدّ تهديد حياتهم.
تواجه تونس تحدّياتٍ كثيرة كان بالإمكان مواجهتها وتجاوزها بالخطط والبرامج والحلول، ولكن في غياب أمن جمهوري يحمي قيم الجمهورية والحرّية والمواطنة، قبل حمايته الأشخاص، وفي غياب عدالة يلجأ إليها المظلوم، وتضع حدّاً لبطش الأقوياء، تتحوّل الدولة تدريجياً إلى ما يشبه مجتمع الغاب، ينعدم فيها الشعور بالأمان، وتضعف فيها الثقة بين الناس وفي المؤسّسات، ويفتر فيها شيئاً فشيئاً شعورُ الانتماء، وتتضخّم حالةُ العزلة بين الأفراد، ما يهدّد بتفكّك النسيج المجتمعي، وانتشار مظاهر الفساد والعنف.