في بحث إسرائيل عن فرضيّات استراتيجيّة جديدة
يطالب خبراء إسرائيليون كثر باعتماد فرضياتٍ استراتيجيةٍ مغايرةٍ لما جرى اعتماده من فرضيات بخصوص الحروب التي تواجهها إسرائيل، وذلك في ضوء ما واجهته من وقائع إبّان الحرب الحالية على قطاع غزّة. ويقف في طليعة تلك الوقائع حقيقة أن إسرائيل تخوض منذ أكثر من عشرة أشهر حرباً في القطاع بموازاة حرب استنزاف في ساحاتٍ ستٍّ أُخرى: لبنان وإيران وسورية واليمن والعراق والضفة الغربية، تنطوي في الوقت ذاته على خطر اندلاع حرب إقليمية متعدّدة الساحات. وهذا مسار خطِر، يستلزم سيناريو لم تبلور إسرائيل استراتيجيا وأهداف حرب ملائمة له، على حدّ ما يقول أكثر من مسؤول عسكري إسرائيلي سابق. فضلاً عن ذلك، أضحت إسرائيل، على وجه العموم، غارقة فعلاً في حرب استنزاف، وهي تتعارض مع مزايا قوتها، وبالأساس مزية "الضربة الساحقة"، وفي توقيت يُبرز نقاط ضعفها وفي مقدّمها "مسألة طول النفَس". وبموجب ما يشدّد عليه أبرز هؤلاء المسؤولين العسكريين السابقين، على إسرائيل أن تعود إلى عقيدتها الأمنية الخاصّة بها، المتمثلة في "حروب قصيرة تُخاض داخل أراضي العدو". وفي سبيل ذلك، ينبغي إخراج الخصوم من الصورة وإزالة التهديدات التي يفرضونها عليها وبالتدريج. وفي لحظة صراحة لافتة، أكّد الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) عاموس يادلين أن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، مُلزم، من الناحيتين الاستراتيجية والأخلاقية، بتبنّي توصيات الجهات الأمنية المهنية وإزالة العقبات التي وضعها أمام المفاوضات مع حركة حماس، لتمكين صفقة تبادل الأسرى. ولعلّ الجديد في ما يقوله استنتاجه أن لدى هذه التوصيات القدرة على تهدئة الجبهات الأُخرى والمساعدة على إغلاقها، وكذلك تمهيد الطريق إلى إعادة سكّان الشمال إلى منازلهم من خلال تسوية دبلوماسية مع لبنان. وحتى إذا لم يجر التوصل إلى تسوية كهذه، فإن وقف الحرب سيمكّن الجيش الإسرائيلي من التعافي، وإعادة تعبئة مخازنه، والاستعداد للحرب، وبصورة خاصة مع حزب الله، وربما أيضاً مع إيران. وتحتاج إسرائيل إلى تنسيق جميع هذه التحرّكات مع الولايات المتحدة، فالدعم الذي ستقدّمه الأخيرة إلى إسرائيل، من حيث طول النفَس والتأييد السياسي، مصيري للغاية.
ومن الفرضيات الاستراتيجية المغايرة الأخرى التي يُشار إلى ضرورة اعتمادها، يمكن التنويه بفرضيتين، تتعلقان أساساً بالحرب في الجبهة الشمالية مع حزب الله ومواصفاتها المستجدّة التي شفّت عنها الحرب الراهنة:
الأولى، أن أي حرب في المستقبل في هذه الجبهة لا يمكن أن تعتمد على مبدأ الفصل بين الساحات، ومن غير الصحيح، من ناحية إسرائيل، أن تفصل بين حزب الله وإيران، بل على العكس يتعيّن على إسرائيل أن تشنّ هجمات مباشرة ضد إيران. ووفقًا لما يصرّح به المقربون من نتنياهو (مثلًا على صفحات صحيفة "يسرائيل هيوم") حان الوقت لعدم التغاضي عن "حقيقة أن إيران هي التي تهاجمنا بشكل مباشر"، من خلال العمليات التي يقوم بها حزب الله، وأي تجاهل لهذه الحقيقة سيؤدّي إلى الإخفاق في مواجهة الجهة الحقيقية الواقفة وراء ما يحدُث مع حزب الله.
الثانية، أن حزب الله يقوم بخطوات لفرض ميزان رعب وردع على إسرائيل طوال أعوام. وتمثلت أهم خطوة بهذا الشأن، مثلما أكّد المحلل العسكري لصحيفة معاريف، آفي أشكنازي، في ربطه منطقة الجولان بساحة القتال في المواجهة الدائرة في لبنان. وقبل ذلك، كانت جبهة الجولان ساحة قتال إسرائيلية - سورية، ففي حرب لبنان الأولى (1982)، لم يتحرّك الجيش السوري في الجولان، وكذلك في حرب لبنان الثانية (2006). وبرأيه، كان من مصلحة إسرائيل إبقاء منطقة الجولان خارج نطاق المواجهة مع لبنان. غير أن حزب الله نجح، من خلال تصرّفات محسوبة يصفها بأنها ذكيّة، في تغيير هذه المعادلة الإسرائيلية رأسًا على عقب. وفي الوقت الحالي، لم تعد مشكلة الحدود الشمالية - الشرقية قضية إسرائيلية - سورية، بل مسألة إسرائيلية مع حزب الله، وتحوّلت سورية إلى جبهة ثانوية.