في الهجرة غير الشّرعية... قيم المهارة والكفاءة هل الحل
كلُّنا شاهد، مدهوشا، تلك المغامرة المحفوفة بالمخاطر التي خاضها مراهقون قاموا، وفق ما رشح من أخبار، بسرقة قارب صغير وعبروا به إلى إسبانيا، مع العلم أنّ أكبرهم عمراً يبلغ 17 عاماً وأصغرهم مولود في 2001، فما هو الصّحيح في المغامـــرة وما هو الخطأ وما هي خلفيّة ما حدث وسيحدث إن لم تُصحّح الأخطاء وتمّ احتواء الخطر؟
يتجلّى، من خلال القراءة في المغامرة، بكلّ تفاصيلها، التي، وهنا المفارقة، استعرضها هؤلاء الفتية في شبه مؤتمر صحافي على وسائل التّواصل الاجتماعي، حاولوا فيه شرح كرونولوجيا العبور، وكأنّهم يحدّثون جمهورا مغيّب العقـل والوعي، لا يعلم الكثير منهم أدنى شيءٍ عن الهجرة غير الشّرعية، القوانين التي تحكم سير المراكب، دخولا إلى الموانئ، وخروجا منها، إضافة إلى سياق المغامرة ومسارها من حيث استخدام نظام سير إلكتروني من عدمه، درجة معرفة هؤلاء الأطفال بميكانيكا محرّك القارب، ثمّ شبهة تلقّيهم مساعدة في كلّ المغامرة، من بدايتها إلى وصولهم إلى إيبيزا الإسبانية، معلومات قدّموها، وهم فخورون بما أنجزوه متناسين تبعات ما قاموا به على صورة بلادهم، جانب الصّدق والكذب في المغامرة، وصولاً إلى تداعيات المغامرة على مستقبل محاولات الخروج من الجزائر عبر البحر، في هجرة غير شرعية.
يجول كلُّ ما تقدّم في خاطر الجزائريين الذين غلب عليهم التّشكيك في أن تكون المغامرة، برمّتها، مخطّطاً لها ويُراد لها أن تخرج بتلك الطّريقة، وهي ليست كذلك، لأسباب سنوضّحها تستدعي منّا وقفات للبحث في أسباب ما وقع، لماذا هناك من يفخر بما قام به هؤلاء، وهل يستدعي الوضع، مهما كانت جوانب القصور في السّياسات العامّة، الدُّخول في مغامرات محفوفة المخاطر مثل تلك قادت هؤلاء الصّبية إلى المخاطرة بأنفسهم في عرض البحر؟
الهجرة غير الشرعية هي نتاج جملة أخطاء ارتكبها المجتمع، برمّته، من العائلة، إلى المدرسة (لكونهم أطفالاً مراهقين) وصولاً إلى السّياسات العامّة الفاشلة
من بين الوقفات التي يقضيها الموقف ذلك السّفه الذي انتشر على وسائل التّواصل الاجتماعي من حبك حكاياتٍ لا أصل لها بشأن مغامرة الفتية أو بربط تلك المغامرة بسياقات بعيدة كلّ البعد على أن تكون لها صلة بما حدث، وصولا إلى بعض من وصف هؤلاء بالأبطال، وحاول الرّبط بين عبورهم إلى الضفة الأخرى واستحالة أن يكون هناك حلم ما يمكن تجسيده في الجزائر وكأنّها حالة يأس عارمة انتابت المجموعة الوطنيّة.
تستدعي هذه الوقفة العودة، مرّة بعد مرّة، إلى غياب الوعي أو تغييبه، وبخاصة عندما يتعلّق الأمر بظاهرة أضحت مرتبطة بكثير من الصُّور النّمطية الخاطئة عن جنّة الضّفّة الأخرى، وما يرتبط بها من صرف لأموال ضخمة، بل كون تلك المغامرات أضحت، الآن، مشاريع عائليّة يشارك فيها الجميع لتأمين مبلغ المال الذي يسمح بركوب قوارب الموت، كلُّ وفق طبقته ومستواه بل وخياره للعبور، ما يقتضي من الجميع التّفكير في القضيّة بمقاربات ابتكارية تشخّص الظّاهرة، وتبحث لها عن علاجات وليس الغرق في السّفه الذي شاهدناه مرافقا للمغامرة وكأنّ كل المجتمع غُيّب عن الوعي وصار مهووسا، فقط، بفكرة ترك البلاد والهجرة نحو المجهول. وهناك، أيضا، في باب هذه الوقفات، تلك التي تحاول تصوير هؤلاء الفتية بأنّهم أبطال وقد وصلهم ذلك الشُّعور حيث نظموا، فور وصولهم إلى إسبانيا، شبه ندوة صحافيّة تابعها الكثيرون على تيك توك شرحوا فيها تفاصيل مغامرتهم ناسين أو متناسين أنّ الحديث لا يبرز شجاعتهم بل يبرز، أكثر ما يبرز، أنّ المغامرة فيها شبهات تخطيط، مساعدة من أطراف ثمّ سياق عبور ستكشف الأيّام القادمة تفاصيلها.
طبعا، لسنا بصدد ربط هجرة هؤلاء الصبية بنظريّة المؤامرة بل، فقط، نريد إظهار جانب الوعي الذي حاول بعضهم إخفاءه بتحويل جنون فتية إلى ما يمثّل بطولة زائفة، حيث إنّ تلك المغامرة لا تعدو، في نهاية الأمر، أن تكون جملة أخطاء ارتكبها المجتمع، برمّته، من العائلة، إلى المدرسة (لكونهم أطفالاً مراهقين) وصولاً إلى السّياسات العامّة الفاشلة التي، بجانب القصور فيها، مكّنت من الصُّورة النّمطية لظاهرة خطيرة مثل الهجرة غير الشّرعية أن تصبح حلم كلّ الشّباب حتى وإن كان منهم من عائلات ميسّرة بل يمتلك بعضهم سيارة، شهادة، منصب عمل ومبلغاً من المال يمكن أن يكون نواة مشروع حياة، وليس مدخلاً إلى ركوب قوارب الموت والمرور إلى الضّفّة الأخرى.
نصل إلى الوقفة الأخرى التي تشير إلى وجوب التّفكير في الظّاهرة ليس بالتّفكير الآني، بل الإعلان أنّ الظّاهرة شأن من السّياسات العليا يدخل ضمن قضايا الأمن القومي، لا يمكن التّغاضي عنها، ذلك أنّ مجمل الفواعل المنخرطة في المغامرة الخطيرة للهجرة غير الشّرعية (مهاجرون، مهرّبون، مموّلون، أصحاب القوارب ثمّ القائمين على إنجاز السياسات العامة على مستوى الكثير من المصاح) مسؤولون عن الوضع الذي وصلنا إليه من تصوُّر أنّ المآل الأخير هو العبور، بأيّ طريقة كانت، إلى خارج البلاد عبر قوارب الموت في صورة يأس بل قمّة اليأس الذي يمكن أن يحمل مسمّى الاحتراق الاجتماعي الشّبيه بالاحتراق الوظيفي (Burn Out) الذي يعني أن المجتمع، برمّته، بلغ، أيّا كانت طبيعة الانخراط في المغامرة الفاشلة، وأيّا كانت طبيعة المسؤوليّة عنها، درجة الإحجام عن العمل، عدم الرّغبة في الحياة وإدراك خاطئ للواقع ومقاربات تغييره.
سبق لصاحب المقالة تناول الموضوع في "العربي الجديد" بمقالة عنوانها "سوسيولجية الحرقة (الهجرة غير الشّرعية)" حيث تمّ طرح طبيعة المنخرطين في الحلم الخطأ وتشخيص الأسباب التي دفعتهم إلى ركوب أمواج البحر في قوارب الموت، وهي أسباب مطروحة للنّقاش على كلّ المستويات، ويجب المرور، الآن، وبصفة استعجاليّة، بعدما بلغ السّيل الزُّبى، إلى وصف العلاج، وهو على أكثر من مستوى يشترك في القيام على تقديمه والحرص على نشره على كل أطياف المجتمع الجميع من الأسرة، إلى الأجهزة الأمنية، مروراً بالمدرسة، الجامعة، والقائمين على مجمل السياسات العامة التي لها صلة بالمواطنين.
التنشئة الاجتماعية حيوية جدّاً ومن مداخلها إدراج قيم النّجاح من خلال المهارة والكفاءة، وفقط، بقصد قطع الطّريق على ما نعيشه من تقديس الخطأ
لا يجب الاستهانة بخطر الظّاهرة، وخصوصاً أنها، الآن، أضحت مغامرة تحمل صورة تمثيلية للشّجاعة وللذّكاء في صورة الكثير ممّن عبر وكان له الحظ في الحصول على مال، وربما الظّفر بفرصة التّحوُّل من مهاجر غير شرعي إلى مواطن يجمل جنسيّة وجواز سفر البلد الذي استقر فيه، وهو ما يجب أن نقطع بأنها حالات شاذّة قد تكون مرتبطة بمن يحتاجهم العالم الآخر من أصحاب مهارات وكفاءات. وهذه، حقّاً، نقطة الانطلاق في بناء استراتيجيّة استعادة وعي هؤلاء الشّباب الطّامح إلى تكرار المغامرة، ولو بنسب نجاح صغيرة حملت أخبارها تلك الجثث التي تطفو، بين حين وآخر، على شواطئ البلاد، في الجوار أو في عرض البحر.
يفكّر الجميع في تحسين أوضاعهم، وهذا مشروع، ولكن لماذا لا يكون ذلك بالمقاربة التي تحفظ كرامة الإنسان ولا تعرضه للخطر، ولا يكون ذلك إلا باستعادة قيم النّجاح من خلال مدخلات المهارة والكفاءة، حيث يجري توجيه الجهود، كل من المكان الذي هو مسؤول فيه، من الأسرة إلى القائمين على السّياسات العامّة، إلى تحسين مردود التّعليم وزرع الوعي، من جديد، بأنّ المصعد الاجتماعي (تجديد النُّخب ودورانها) ما زال يعمل. ولكن من خلال مدخلات المهارة (مراكز التّكويـــــن) والكفاءة (الجامعة ومراكز البحث). وقد تلعب وسائل الاتّصال الاجتماعي ووسائل الإعلام دورها في ترقية هذه الاستراتيجية من خلال التركيز على النماذج الناجحة التي تعبر إلى الضّفّة الأخرى، من خلال تلك المداخل (المهارة والكفاءة)، بل يجب البحث عن تلك النّماذج وتقديمها إلى المجتمع، بإخراج ابتكاري وصور تمحو مأساة الهجرة غير الشّرعية، وتجعل منها ظاهرة مقيتة اجتماعياً، وعندها، فقط، يمكن الحديث عن تجريم الظّاهرة وليس قبلها.
يفكّر الجميع في تحسين أوضاعهم، وهذا مشروع، ولكن لماذا لا يكون ذلك بالمقاربة التي تحفظ كرامة الإنسان ولا تعرضه للخطر
تقوم الاستراتيجية المذكورة على تظافر جهود القائمين على السّياسات العامّة، كلّ من مقام مسؤوليّاته، خصوصاً التّربية، التّعليم والإعلام، مع الحديث، عبر كلّ الوسائل، عن النجاح، مقاربات النّجاح والتّركيز على النّماذج بلغة راقية، صور تحمل رمزيّة النّجاح، وتجعل منه قيمة مقدّسة، ولا غرو إن جرى تقديم المداخل السّلبية من مسؤولين فاشلين ونماذج شاذّة للدفع إلى المقارنة بين النماذج القدوة ونماذج السُّوء.
يمكن للاستراتيجية أن تحمل مضمون التّركيز على قدرات البلاد وتمكين تلك النماذج من حمل مسؤوليّات، الحصول على فرص وتنفيذ مشاريع ممولة أو بمساعدة تقدم لهم فيها تسهيلات تعوّضهم، في إدراكاتهم وشعورهم، عن تلك الصُّورة النمطية للفرصة الحلم المتمثلة في أن العبور إلى الضفة الأخرى، ولو بقوارب الموت، هي النّجاة.
التنشئة الاجتماعية حيوية جدّا ومن مداخلها، الآن، إدراج قيم النّجاح من خلال المهارة والكفاءة، وفقط، بقصد قطع الطّريق على ما نعيشه من تقديس الخطأ وتحويله إلى نجاح بل قدوة، ومن دون ذلك نجاة المجتمع من السُّقوط في براثن الفشل والقيم التي ستقضي عليه، لا محالة، فهل من مصغ؟