في المثاقفة والتواصل الثقافي
(بابلو بيكاسو)
لا تخضع الثقافة في المجتمعات البشرية لمنطق التَّكَوُّن والتَّكوين السُّلالِي والعِرقي. وتقدّم الحضارات القديمة أكبر الشواهد على نتائج التواصل بين الثقافات. أما ثورة الاتصال، التي تعدّ اليوم من أبرز سمات عصرنا، فقد عملت على توسيع دوائر التواصل الثقافي محليّاً وإقليميّاً، وكذا في المستوى العالمي، الأمر الذي ترتّبت عنه مجموعة من النتائج التي لم يتمكّن العقل المعاصر بعد من إدراك مدى تأثير مفعول نتائجها في الحياة الإنسانية في مختلف أبعادها. وعندما نتحدّث عن الثقافات بالجمع، وننسبها إلى تواريخ وجغرافيات مُحدّدة، فإننا نقوم بذلك من باب الضبط التاريخي والمنهجي، الذي يسلم بالخصوصيات التاريخية، ويتجنّب، في الآن نفسه، التوصيفات التي تضع الحدود المغلقة والفاصلة بين الثقافات. ولهذا السبب، فعل المثاقفة هو الخاصية المطابقة، للتحول والتنوّع الثقافي الحاصل والمتواصل الحصول في التاريخ. ولأننا لا وجود لسلالة بشرية نقية، لا يعتقد الكاتب هنا، أيضاً، بوجود ثقافة نقية، فكل السلالات متداخلة في التاريخ بدرجات، وثقافاتها مفتوحة بعضها على بعض بأشكال مختلفة ومتنوعة.
صحيح أن التنوع الثقافي يعكس، بصورة ما، أشكال التنوع الحاصلة بين المجموعات البشرية في التاريخ، إلا أن هناك قوانين في التاريخ، تساهم في تركيب أشكال من المثاقفة التي تعمل على صهر المشترك التاريخي، والدفع به في اتجاه بناء المركبات الثقافية التاريخية المتعدّدة، والمتداخلة في الوقت نفسه. والتأكيد هنا تأكيدُ أهميةِ فعل التواصل الذي يُعَدّ سمةً ملازمة للحياة البشرية في كل الأزمنة والعصور. يتجلى ذلك في الإمبراطوريات القديمة، التي حكمت جغرافيات واسعة من العالم، كما يتجلى في أساليب الهيمنة الحديثة والمعاصرة، وقد عملت على إيجاد صلات من الترابط التاريخي المبدع، بين المجموعات البشرية في مختلف قارات المعمورة. وإذا كان المدّ التاريخي الإسلامي قد انتشر في العالم حاملاً راية العقيدة الإسلامية، ومعمّقاً مكاسب الفكر كما تبلورت وتأسست في الثقافة العربية الإسلامية في عصورنا الوسطى، فإن الاكتساح الأوروبي العالم غير الأوروبي، الذي برزت علاماته الأولى ابتداء من نهاية القرن الثامن عشر، قد نقل المكاسب الثقافية الجديدة، الناشئة في قلب المشروع الثقافي الأوروبي الحديث والمعاصر، ومنحها صفةَ المكاسب الأكثر شيوعاً وانتشاراً في العالم. وتمارس اليوم وسائط الاتصال بتقنياتها الجديدة، ما يساهم في عمليات تنميط ثقافية قسرية، تتجه إلى ضبط (وترتيب) مختلف ما يجري في العالم من تحوّلات.
لا تنفي خاصية التواصل الثقافي التَّعَدُّدَ، لكنها ترفض التميز اللّاتاريخي والنقاء الأخلاقي واللّاهوتي
لا تنفي خاصية التواصل الثقافي التَّعَدُّدَ، لكنها ترفض التميز اللّاتاريخي والنقاء الأخلاقي واللّاهوتي، وهي تنظر إلى الخصوصية التاريخية، باعتبارها الإطار المحدِّد والضامن لمختلف إيجابيات التعدد والتَّنَوُّع الثقافيين. وضمن هذا السياق، تعدّ الثقافة العربية الإسلامية، كما نشأت في التاريخ، مُحَصِّلَةَ عمليات في المثاقفة، فمن يستطيع إنكار قدرة الثقافة الإسلامية في عصورنا الوسطى على إعادة تركيب المرجعيات التي تواصلت معها؟ ثم هل نستطيع النظر إلى الموروث الثقافي العربي الإسلامي، باعتباره تراثاً مفصولاً عن روافده القادمة من أزمنة وعقائد وجغرافيات مختلفة؟
يدرك المشتغلون بتاريخ الأفكار والثقافات عمليات المواءمة والاستيعاب الحاصلة في التاريخ العربي الإسلامي، عمليات المواءمة بين التصورات التي بلورها المنظور الديني الإسلامي للكون وللإنسان وللمعرفة ومكاسب الثقافة العربية السابقة للإسلام، والثقافات الأخرى المعاصرة له. ولا يمكن أبداً إنكار الدور البارز الذي لعبته منظومات ثقافية معينة، في تكوين الثقافة الإسلامية وتطوّرها.
يمكن أن نوضح هذه المسألة من خلال مثال مُحدّد، يتعلق بالتراث السياسي الإسلامي في تمظهراته النظرية المختلفة، لنكتشف درجة وقوة حضور الموروث الثقافي السياسي القديم (اليونان، الفرس) في هذا التراث، ونكتشف، في الآن نفسه، قدرة العقل السياسي العربي الإسلامي على بناء مرجعيته النظرية السياسية بصورة مركّبة، حيث تداخلت مقدّمات التصوّر السياسي العقائدي للمجتمع وللعدالة (نصوص الوحي، تجربة التاريخ الإسلامي في بداياته، بمعطياتها الواقعية والمتخيلة والمؤسطرة)، مع التصوّر السياسي الفارسي الذي بلورته الدولة الساسانية (على وجه الخصوص)، وشكلت المحصلة التراثية في المجال السياسي في مختلف تمظهراته النصية، نموذجاً من نماذج الثقافة السياسية المستوعبة لأسئلتها التاريخية، في علاقاتها بمكاسب تجارب الأمم التي تواصلت معها في التاريخ.
يندرج فعل المثاقفة ضمن أفعال الإبداع وصيغه المتعدّدة، كما حصلت وتحصل في التاريخ، وغالباً ما تكون المثاقفة فعلاً إبداعياً يروم إعادة التأسيس
ينطبق الأمر نفسه على مجالاتٍ لا حصر لها في فضاء الثقافة الإسلامية في عصورنا الوسطى. ولهذا السبب، نحن نعتبر أن أي حديثٍ عن الثقافة الإسلامية لا يستحضر آلية المثاقفة المستندة إلى مبدأي التواصل والمواءمة، الاستيعاب وإعادة البناء، يندرج ضمن الأحاديث التي لا تأخذ معطيات التاريخ بعين الاعتبار، أو الأحاديث التي تندرج ضمن أفق نظرةٍ متعاليةٍ للثقافة، نظرة تعلي من شأن بعض المكوّنات الثقافية الذاتية، استناداً إلى منظور مثالي للتاريخ، أو بناء على حسابات نفسية أو سياسية، غالباً ما تكون ظرفية وعارضة.
عندما نسلم بهذا الأمر، لا يعود بإمكاننا، في أثناء الحديث عن الثقافة العربية الإسلامية، أن نتصوّر أنفسنا أمام نظام في النظر مغلقٍ ومكتفٍ بذاته، بل يتمثل الموقف السليم، كما نتصوَّر، في النظر إلى هذه الثقافة، باعتبار أنها تجسّد فضاءً للتركيب الثقافي التاريخي، أي التركيب المتولِّد بواسطة عمليات الصيرورة، التي يجري فيها المزج بين الروافد والمكونات الذاتية، في علاقاتها المتعددة بالروافد الأخرى، الناشئة بدورها في التاريخ. وينطبق الأمر نفسه على مجمل إنتاج فكرنا السياسي اليوم، ذلك أن مفاهيم الحداثة والتنوير، ومفاهيم الدولة والتَّعاقُد والمواطنة، تندرج جميعها ضمن منظومات الفلسفة السياسية الحديثة، كما نشأت وتطورت في الغرب الأوروبي، وهي تشكِّل اليوم جزءاً من لغتنا السياسية.
لا ينبغي أن يفهم من سياق ما نحن بصدد توضيحه أن فعل المثاقفة يعني مجرّد الاستعارة والنسخ وبناء الأشباه والنظائر. يندرج فعل المثاقفة ضمن أفعال الإبداع وصيغه المتعدّدة، كما حصلت وتحصل في التاريخ، وغالباً ما تكون المثاقفة فعلاً إبداعياً يروم إعادة التأسيس، أو فعلاً تأويلياً يتوخّى تكييف المعطيات المرجعية، المستمدَّة من الثقافات الأخرى في المكوّنات الثقافية المحلية، وفي الحالتين معاً يتضمن الفعل الثقافي والمنتوج الثقافي جهداً في النظر، يقوم على الترجمة والتأويل وإعادة التركيب، بكل ما تحمله هذه العمليات والمفاهيم، من دلالات تُقِرُّ بمبدأ التفاعل إيجاباً وسلباً وبصورة تاريخية.