في المؤقّت السوري

14 فبراير 2025
+ الخط -

تتغيّر حكومة تصريف الأعمال السورية الحالية في الأسبوع الأول من الشهر المقبل (مارس/ آذار)، لتتسلّم إدارة البلاد حكومةٌ مؤقتة، يُسمع في دمشق أنها ستكون متنوّعة الألوان. ومع الإعلان عن تسمية أعضاء لجنة مؤتمر الحوار الوطني الستّة، وعقدهم أمس لقاء مع الصحافة، قالوا فيه عن "تمثيليّة" واسعة، مناطقية خصوصاً، للمشاركين في المؤتمر المنتظر، يُفترض أن تعبُر سورية إلى طوْرها الانتقالي بإيقاعٍ آخر، من المنتظر أن يكون مختلفاً، يلمس فيه السوريون تقدّماً نحو شيءٍ من حضورهم في الشأن العام، شعباً متنوّع الشرائح، فيه نخبة متعدّدة الخيارات الفكرية والسياسية، وذلك باتجاه بناء مؤسّسات الحكم وشرعيّته، بانتخاباتٍ رئاسيةٍ ونيابيةٍ ومحلية، وإصدار التشريعات والقوانين والنظم التي تنهض بهذا كله، وأولها إعلانٌ دستوري، قبل الذهاب إلى صياغة مجلس خبراء (أو مجلس تشريعي مصغر أو ... إلخ) دستور البلاد الذي يلزم أن يُستفتى السوريون بشأنه، وذلك كله (وغيرُه) بالتوازي مع تعافٍ مشتهى لعجلات الاقتصاد ودواليب الإنتاج ومسارات التنمية والتأهيل في كل القطاعات. وعلى غير ما وصفه محمود درويش مؤقتاً طويلاً ذلك الذي انتظره (أو تأمّله؟) الفلسطينيون بعد اتفاق أوسلو (1993)، وما تأكّد تالياً أنه أكثر من طويل، على ما تبيّنه الحوادث الجارية والمتوقّعة، يُرتجى للسوريين أن يكون مؤقّتُهم قصيراً، سيّما وأنه يتعلّق بإعادة بناء دولتهم القائمة على أسس ديمقراطية جديدة، فبين أيديهم أرضهم، وهم على أرضهم، وفيهم الخبرات في كل حقل وميدان.

وإذ يصحّ القول إن الأصحّ كان إصدار إعلان دستوري، في اليوم الثاني من إسقاط نظام بشّار الأسد، يحسُن عدم التوقّف عند هذا التأخير، مع لزوم ألا يُصبح التأخير، والبطء (أو التباطؤ؟) سمة المؤقّت السوري المرتقب، سيّما وأن "صلاحيات" مؤتمر الحوار المنتظر ليست واضحةً تماماً، وما إذا كانت "توصياتُه" (!) ستكون بمثابة قرارات، أو أنها ستكون في عهدة سلطة رئاسة الجمهورية (في المرحلة الانتقالية) والحكومة المؤقتة المقبلة، ولكليْهما "الحقّ" في الأخذ بمرئيات كلٍّ منهما بشأن ما سيُصدر في البيان الختامي للمؤتمر. ومع التأكيد البديهيّ على أن الدستور هو أبو القوانين، والمرجع الأول في الدولة، ويُفترض أن تختصّ محكمةٌ دستوريةٌ عليا في شأن أي خلافٍ أو تنازعٍ في شأن تفسير أي استخدام له في صناعة هذا القرار التنفيذي أو ذاك، فإن الوضوح في مهمّات المؤتمر (ولجانه) شديد الإلحاح والضرورة.

يتحدّث لصاحب هذه الكلمات التي تنكتب في دمشق أصحابُ رأيٍ وأهلُ اختصاص عن نقصان تفاؤلهم بأن المؤقّت الذي سيعبُر فيه بلدهم (مدّته أربع سنوات على ما قال الرئيس أحمد الشرع لتلفزيون سوريا) ليس مكتمل التفاصيل في هذه اللحظة، وإنّ من الوارد أن ينفّذ أهل القرار الحاكمون في هذه اللحظة من مساحات الغموض إلى فرض ما يريدون، أو أخذ هذا المسار (الدستوري أو غيره) إلى الوجهة التي يستحسنون. بل لا يُخفي بعضُهم توقّعه (أو قناعته!) بأن مؤتمر الحوار الوطني سيكون ديكورياً إلى حدّ ما، أو منتدى حوار ونقاش وبسقوفٍ عاليةٍ في حرّية القول، ولكن بلا نفع منه. على أن هذا التطيّر المبكّر ليس هو المنحى الغالب في تداول النخبة المثقّفة والناشطة في سورية، فوجهة النظر الأعرض هي التي تتبنّى التريّث، وعدم الاحتكام إلى أفكارٍ مسبقةٍ، وعدم الأخذ بالقياس، فلا يُبنى حكمٌ على أمرٍ لم يحدُث على ما حدَث، فالأوْلى في نظر هذا النفر من السوريين انتظارُ الآتي، مع شيءٍ من التفاؤل، وتقدير الأولويات وتقديمها على أي مسألةٍ أخرى. وإذ عاين كاتب هذه المقالة تبايناً في المواقف من تشكيلة أعضاء اللجنة التحضرية لمؤتمر الحوار الوطني، وهم ستةٌ بينهم اثنان من هيئة تحرير الشام (المنحلّة)، وسيدتان إحداهما مسيحيّة، فإن لكل وجهة نظر، ناقدة أو مُناصرة، أسباباً من الوجاهة، على أن الرأي الذي سار في المجرى العام هو الذي يغلّب انتظار الأداء، ليكون لكل حادثٍ حديث.

يخوض السوريون، وهم في الشهر الثالث، بعد تحرّرهم من الأسد، في أسئلة المستقبل، وبشأن المؤقّت الذي يعايشونه، بروحٍ ليس ميسوراً الإمساك بتوصيفٍ دقيقٍ لها، فثمّة المتحمّسون شديدو التفاؤل بأن بلداً قوياً ناهضاً معافى حرّاً سيُبنى، وثمّة المتفائلون بحذر ظاهر، وثمّة القلقون، والانتظاريون ... وثمّة فئةٌ غير متحدّثٍ عنها بشكلٍ كاف، الخائفون، سيّما في خارج دمشق وريفها. وليس يملك واحدُنا غير أن يتمنّى كل خيرٍ، وكل أمنٍ وأمان، لهذا الشعب الجريح، والمُتعب.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.