في العودة إلى عزمي بشارة عن المجتمع المدني
يُعد موضوع المجتمع المدني محوراً أساساً للنقاشات الدائرة عن التحوّلات الديمقراطية في بلدان الجنوب. بل يُمكننا القول إنّنا نتعامل مع هوس حقيقي، سواءً في وسائل الإعلام أو في السياسة والعلوم، لم يفلت منه الشرق أو الغرب، ولا أوروبا الوسطى والشرقية، ولا أفريقيا جنوبي الصحراء الكبرى، ولا أميركا اللاتينية. وبالتأكيد في المنطقة العربية، حيث تثير مسألة المجتمع المدني جدلاً حادّاً. لكن هذا الانتشار للمفهوم، بطبيعته، يُثير في نظر المفكّر العربي عزمي بشارة مشكلةً تتمثّل في أنه "قد يصلح مفهوماً شمولياً للمجتمع المدني من أجل إثارة المناقشة، ولكن ليس أكثر. فنجاعته التحليلية مشكوك فيها في حالات كالحالة العربية، لا هي قبل حداثية ولا هي ديمقراطية". في الواقع، يبدو استخدام مفهوم المجتمع المدني في أحيانٍ كثيرة غير مناسب، إن لم يكن مُلهماً ومُلائماً لجميع أنواع التوظيف الأيديولوجي، وخصوصاً عند انتقاله إلى البيئة العربية "لأنّ الديمقراطية العربية المتعثّرة، في مرحلتها الراهنة، هي في أمسّ الحاجة إلى مفهوم المجتمع السياسي الديمقراطي، وليس إلى الانتقال إلى مفهوم غامض يسترخي خارج السياسة، في أسوأ الحالات، وتتيح كثرة معانيه وغموضه أن يُطوَّع في خدمة أنواع عدّة من السياسات، في أفضلها". وهذا على الرغم من (أو بسبب؟) التسلسل الفكري الطويل لمفهوم المجتمع المدني (هوبز، لوك، هيغل، توكفيل، غرامشي وغيرهم...)، والمكانة البارزة المحجوزة له في النظرية السياسية، وهو ما عرضه بشارة في كتابه باقتدار واستفاضة من خلال رؤية تحليلية نقدية معمّقة.
أهمية كتاب "المجتمع المدني: دراسة نقدية" في السؤال المتعلق بمدى صلاحية الفكرة العامّة عن المجتمع المدني للمجتمعات العربية
العودة إلى كتاب "المجتمع المدني: دراسة نقدية" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، ط6، 2012)، مهمّة (وراهنة) بالنظر إلى حالة الأزمة الحادّة التي تمرّ بها منظّمات المجتمع المدني في المنطقة، جزءاً من أزمة عامّة محتاجة إلى التفكيك والفهم. كان من المحيّر فهم طبيعة ردّات أفعال المجتمع المدني العربي إزاء قضايا كبرى ومفصلية، أولها المتعلّق بالدفاع عن الديمقراطية ورفض الاستبداد، ولا تقدّم التجارب العربية في تونس ومصر والسودان نماذجَ جيّدةً في مجالها، وتحديداً في الدفاع عن التحوّل الديمقراطي من حيث انقسامها بين مؤيّد للعسكرتاريا وبين منحاز لأيديولوجيا إقصائية. والقضية الثانية هي الموقف من العدوان على غزّة، وبمقارنة بسيطة بين المجتمع المدني الغربي ومواقفه المتقدّمة وتحرّكاته في الشارع، والوضع في المنطقة العربية، لا يمكن تجاهل ضعف القوى المجتمعية العربية التي هي في غالب الوقت تنتظر المواقف الرسمية للدولة، أو غائبة من المشهد كلّياً.
في الفصل الخامس من الكتاب، وتحت عنوان "واقع المجتمع المدني وفكره: حوار عربي"، يحلّل بشارة معوّقات تشكّل مجتمع مدني عربي، وأسباب تعثّر قيام نظام ديمقراطي حقيقي أساسه قيم المواطنة في المنطقة العربية. ولا يخفي بشارة في مقدّمة الطبعة السادسة من كتابه تأييده الثورات العربية من دون أن يتورّط في المبالغة بالاحتفاء بجيل الثورات "فالمديح المطلق وغير المشروط الموجّه للشباب، يشبه مديح المثقّفين العرب للمجتمع المدني، بوصفه وصفةً سحريةً للديمقراطية ويمكن أن يكون مضلّلاً للشباب".
والحقيقة أن العوائق الهيكلية التي ذكرها عزمي بشارة في كتابه لا تزال قائمةً، بل كشفت الأحداث أخيراً (الأفق المسدود الذي عرفه "الربيع العربي"، وتزايد عربدة الاحتلال الصهيوني) مدى تحكّمها في تطوّر منظّمات المجتمع المدني العربية، وينبغي أن نذكّر هنا بتأكيد بشارة أن فكرة المجتمع المدني ذاتها مستوردة من النموذج الغربي (وهذا ليس استنقاصاً منها، ولكن "كما لا يمكن استيراد الأمة، كذلك لا يمكن استيراد المجتمع المدني"، كما يقول بشارة)، ولهذا كانت محاولة بناء منظّمات توصف بأنها مجتمع مدني في المنطقة العربية تعترضها عوائق منها "مشكلة طبيعة أعضائها، وتجانس تركيب هذه المنظّمات، وعدم شعبيتها وعدم شمولها قطاعات من المواطنين ذوي الأصول المتباينة والاهتمامات المتباينة، ولذلك أيضاً يغلب الصدام في ما بينها على الصراع داخلها".
ليست كلّ الجمعيات يمكن تصنيفها من صلب عمل المجتمع المدني، إذ "لا تجسد المنظّمات غير الحكومية" منظّمات المجتمع المدني". وفي الوطن العربي صيغة عربية عن مجتمع مدني قيد البناء، وكثير من منظّمات العمل الأهلي والتكافل الاجتماعي تسيطر عليها قوى دينية يدخل العزوف عن السياسة في صلب تعريفها، وهو ما يفصلها عن المعنى الحقيقي للمجتمع المدني، "فهذه المنظّمات ذات الطابع الطوعي قائمة على أفراد ولكنّهم عديمو الحقوق". في المقابل، فإنّ مؤسّسات حقوق الإنسان ومراكز الأبحاث وغيرها من المؤسّسات التي تهوى تسمية "مؤسّسات المجتمع المدني"، إمّا منظّمات مسيّسة ومؤدلجة، يستغلها أصحابها مدفوعين بفشل عملهم الحزبي، أو هم يحاولون توظيف هذه المنظّمات بحسب موقعهم من السلطة، سواءً كانوا ضحاياها أو حلفاءها. وفي كلتا الحالتين لا تقدّم هذه المنظّمات إضافةً كبيرةً للعمل المدني ولقيام مجتمع ديمقراطي حقيقي. أما الوضع الثالث لهذه المنظّمات فحالة مَن يسمّيهم عزمي بشارة "محترفي العمل السياسي والاجتماعي"، الذين وجدوا "تمويلاً في صناديق الدعم الأجنبية للمنظّمات غير الحكومية"، وهؤلاء على الرغم من استفادتهم التنظيمية من الممول الأجنبي إلّا أنهم في النهاية محدودو التأثير والفاعلية ويستجيبون للأجندات التي يفرضها المانحون.
كشفت الأحداث أن العوائق الهيكلية التي ذكرها عزمي بشارة في كتابه لا تزال قائمةً، تتحكم في تطوّر منظّمات المجتمع المدني العربية
أهمية كتاب "المجتمع المدني: دراسة نقدية" في طرحه السؤال الجوهري بالنسبة إلينا نحن العرب، وهو معرفة إلى أيّ مدىً تكون هذه الفكرة العامّة صالحةً للمجتمعات العربية. وإذا كانت كذلك، بعبارة أخرى، ومع الأخذ في الاعتبار عدم دقّة المفهوم، هل يمكن تصوّر المجتمع المدني في غياب الظروف التي تضمن في المجتمعات الغربية تنظيم التوتر بين المصالح الفردية والصالح العام: قواعد اللعبة السياسية المؤسّسية والمستوعبة من الجهات الفاعلة، وثقافة سياسية ديمقراطية متكاملة، وإحساس مشترك بالمصلحة العامة، وانفصال الاقتصادي عن السياسي، والفردية والعلمانية، وما إلى ذلك؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، فهل يجب علينا الاعتراف بأنّ نطاق المجتمع المدني يقتصر على الديمقراطيات الغربية القديمة؟ وفي حال الإصرار على استخدام هذا المفهوم لتحليل عمليات التحوّل الديمقراطي وترسيخه في الدول العربية، ألّا ينبغي لنا وضعه في منظور نقدي للحدّ (إلى حدٍّ ما) من التجاوزات التي يُفضي إليها الإفراط في استخدامه؟... هذه الأسئلة كلّها مثّلت الهاجس الذي دفع المفكر العربي عزمي بشارة إلى محاولة تفكيك مفهوم المجتمع المدني ونقده.