في الديمقراطية ومستقبل القيم

في الديمقراطية ومستقبل القيم

23 مارس 2021
+ الخط -

تدفعنا حالةُ الديمقراطية، في العالم العربي، وفي العالم بشكل عام، إلى القول إن مراقب حركية الأحداث في العالم، يكاد يرى، بأم عينيه، احتضار الديمقراطية التي يزعم صاحب المقالة إنها تعيش لحظاتها الأخيرة في مهدها، المكان الذي وُلدت ونضجت فيه، وفي عالمنا، حيث تتصاعد معركة السّوق والبورصة ضد المواطن، وكأنّنا نعيش اللّحظة التي كتب فيها ماركس وأنجلز "المانفستو" بعد ملاحظتهما تداعيات معركة العامل وصاحب الآلة/ المصنع، وقضية القيمة المضافة التي تتعاظم في حين تتقلّص قيمة العامل وقيمة أجرته التي لا تكفي قوته، في دورةٍ تصنع مشهدا أصبح هو من يحكم العالم وليست صناديق الاقتراع، ولا الديمقراطية وبهرجتها التي قرّر أصحاب الأسهم، المال والمضاربون في البورصة التخلّص منها، في النّهاية، وإلى الأبد. يتّفق الجميع، في الفكر السياسي، على أنّ إشكالية الإنسانية هي التّوفيق بين الاحتياجات والموارد، المعادلة المتناقضة، على الدّوام، وأن السّلطة ورديفها السّلاح أبدعهما الإنسان، للتوصّل إلى الإمساك، وفق أفضل مقاربة، بخيوط تسيير تلك المعادلة، أي الإشراف على عملية تسيير الموارد، كلّ الموارد، أيّا كانت، لإشباع الاحتياجات، كل الاحتياجات.
بالنّتيجة، المسألة السياسية، هي، في الأصل، معادلة اقتصادية، أحسن المال بناء كل تاريخ الإنسانية على أساسها. ويحاول الحكّام، أيّا كانت عناوين الكراسي التي يحكمون من خلالها، ملكيات أو جمهوريات، المزاوجة بين أداة السُّلطة والمال، وصولا إلى بسط السّيطرة والمحافظة عليها، بالمكاسب نفسها، بالنّسبة لهم ولحلفائهم، وعلى حساب الآخرين، المواطنين، الآن، في العصر الحديث.

عملت الدّيمقراطيات الوليدة، في الغرب، على بسط نفوذها في العالم، في أشكال سيطرة، أخذت مُسمّى الاستعمار أو الاستيطان

استمرّت تلك المعادلة وتمّ تغليفها، منذ الثّورة الفرنسية، برمزيات العدالة، حقوق الإنسان والحرّية. لكن، للملاحظة، عملت تلك الدّيمقراطيات الوليدة، في الغرب، على بسط نفوذها في العالم، في أشكال سيطرة، أخذت مُسمّى الاستعمار أو الاستيطان، بل تحاربت، فيما بينها، في حروبٍ مدمّرة، كانت أوجَها الحربان الكونيتان، الأولى والثّانية. ولم تتوقّف عند هذا الحد، بل أخذت أشكالا أخرى بمسلّمةٍ، بقيت هي محور إعمال معادلة التناقض بين الاحتياجات والموارد، وهي مسلّمة السّوق، ليكون، على الدوام، هو القيمة الوحيدة، والبقية قيم تابعة له، بل لا تعيش إلا في ظلّه، إذا قبل بها، وقد تموت إذا حاولت التناقض معه، أو إدارة صراع ما معه. إنها الرّأسمالية وإلهُها الواحد والوحيد السّوق.
قد يُطرح، هنا، سؤال، له صلة بالحاجة إلى الدّليل على أنّ السّوق هو القيمة الأعلى والبقية له تابعة، وهو الأمر الذي يوفّره لنا الواقع المعاش، الآن، من خلال ثلاثة أمثلة: بريكسيت البريطاني (الانسحاب من الاتحاد الأوروبي)، الاختلال القيمي للدّيمقراطية الأميركية والثّورة المضادة في العالم العربي ومواقف الغرب "الدّيمقراطي" منها، بما أنّنا نعيش الذّكرى العاشرة لانطلاق الموجة الأولى من الرّبيع العربي.

تردّدت بريطانيا بين تغليب مبادئ السّوق والدّيمقراطية التي، على أساسها، اختار البريطانيون الخروج من الاتّحاد الأوروبي

لكن، قبل إيراد تلك الأمثلة، هل يُعقل القبول بأنّ الدّيمقراطية التي كانت شرارتها الثّورة الفرنسية هي نفسها الدّيمقراطية التي دخلت بحوافر أحصنتها إلى باحة الأزهر، في أثناء الحملة الفرنسية على مصر، وبعدها، بسنواتٍ، دخلت الجزائر فأبادت سكّانها عن آخرهم، أو كادت (بين 1830 و1870)؟ وهل يُعقل تصوّر أنّ الدّيمقراطيات الرّاسخة التّي يُقال عنها إنّها الكبيرة، في العالم، هي التّي أبادت السّكان الأصليين في أميركا الجنوبية (في القرنين السّادس عشر والسّابع عشر) أو في أميركا الحالية وفي أستراليا (في القرن التّاسع عشر)، بل وصلت إلى إلقاء قنبلتين نوويتين على اليابان (في 1945) للتفرّغ للشّأن الاقتصادي الذي كانت قد أنشئت، للإمساك بكل خيوطه، عبر العالم، مؤسّسات بريتون وودز، في ظلّ الحرب المتواصلة، في استمرارية معادلة السّوق المتمدّد نفسها، على الدّوام، على حساب كل القيم. لكن، في هذه الحالة، الاستناد إلى قيمة السّوق الذي يسيّره الإنسان الأبيض على حساب بقيّة البشر، من السّود وصولا إلى اليد العاملة الرّخيصة، في آسيا، بصفة خاصّة، ثم، الآن، التّوطين في أماكن التنافسية لتعظيم الأرباح ودفع موارد مالية أكثر لأصحاب الأسهم في البورصات العالمية، في نيويورك، لندن، باريس، فرانكفورت، طوكيو، قلاع السوق الرابح، دوما.
تردّدت بريطانيا بين تغليب مبادئ السّوق والدّيمقراطية التي، على أساسها، اختار البريطانيون الخروج من الاتّحاد الأوروبي. وقد فسّر الاقتصاديون ذلك التردّد بالتّداعيات السّلبية لبريكسيت على "السيتي"، سوق المال البريطاني، بل إنّ بعضهم دعوا إلى إعادة الاستفتاء في أولى تراجعاتٍ على قداسة الصوت الانتخابي في ديمقراطية الغرب. ولعل ما قرّره جونسون، غداة إقرار تاريخ الخروج النّهائي من الاتّحاد الأوروبي، خير دليل على جدلية السّوق والدّيمقراطية، حين سعى إلى توقيع اتّفاقية مبادلات تجارية مع أحد أكبر اقتصاديات في أوروبا، الاقتصاد التركي، لتعويض تلك الخسارة.

صعُب على الغرب، بل استحال، أن يصفوا ما حدث في مصر، في العام 2013، بأنّه انقلاب

أمّا اختلال الدّيمقراطية الأميركية الذي شاهدنا تفاصيله، مذهولين، بفعل بهرجة وسائل الإعلام، فانّ مردّه، أساسا، إلى أنّ الرئيس السابق، ترامب، لم يكن سياسيا، بل تاجر وصل، بماله، إلى البيت الأبيض، وتصرّف، طوال فترة رئاسته، بعقلية التّاجر، بل لم تأخذ اتفاقياته شكل معاهدات تبقى لأنّ ما يحكمها القانون الدُّولي، بل كانت تحمل عناوين "صفقات"، يمكن التراجع عنها متى كان السوق يؤشّر على خسائر في الأفق. ولهذا تراجع عن أكثر من اتفاقية وقّعها سلفُه، أوباما، الاتّفاق النووي مع إيران، اتّفاق المناخ، بل ومسلّمات الوصول إلى البيت الأبيض من خلال الانتخابات والصراع السياسي، كما عامل المنافسين لأميركا بقانون الصفقات، فكانت معاركه تجارية مع الصين وأوروبا، بالأساس كما كانت كل قراراته العسكرية، إلا فيما ندر، هي التّراجع والانسحاب (أفغانستان وسورية والعراق). وقد عالج خلافاته الدُّولية من خلال إمّا مقاطعات اقتصادية، وقف للتمويل أو رفع للتعريفات الجمركية، بقوانين السوق وأسلحته، وليس بأسلحة الحرب، كما جرت العادة، على مرّ التاريخ.
لم يكن الأمر مستغربا بالنّسبة لإدارة الغرب ملف التّغيير في الشّرق الأوسط، في أعقاب الموجة الأولى للربيع العربي، بل كان الأمر مشابها للخريطة التي أشرف السياسيان، البريطاني سايكس والفرنسي بيكو، في 1916، على تقسيم العالم العربي، من خلالها، بجرّة قلم، رسما به حدود ما يريدانه من مناطق، لأنّ الغرب اختار أن تفشل رياح التغيير في كل مكانٍ قد يشكّل تهديدا على قلعة المساس بالأمن والاستقرار في المنطقة، الكيان الصهيوني، لأنها القلعة التي ستحول دون ضياع الطاقة التي تعمل بها آلات المصانع في الغرب وتسير بها مركباتهم، كلها، بها. ولهذا صعُب على الغرب، بل استحال، أن يصفوا ما حدث في مصر، في العام 2013، بأنّه انقلاب وبأنّ مآلات الربّيع العربي في أكثر من بلد، اليمن، ليبيا، سورية، مثلا، ثورات مضادّة ضد قيم يمكن للغرب أن يعيش بها، ولكن ليس في المناطق التي يريدها السّوق الرّأسمالي أن تبقى مرتعا لأرباحه ومشاريعه.

لعل لعبة اللقاحات ضد كورونا، حجّة على أن المعركة ستدور رحاها، على أشدها، بين قلاع الرأسمالية

ليس الحديث هنا عن خيار ديمقراطية صالحة للمواطن الغربي، بصفة حصرية، لأنّه، هو نفسه، يعيش ضغوطا للقبول بالتراجعات عن تلك الخيارات، بل دلائل عزوفه عن الانتخاب واتّجاهه نحو أشكال جديدة من الجدال السياسي، بعيدا عن صناديق الاقتراع، هي المسلمة الجديدة التي اعترف بها السياسيون الغربيون في أعتى الديمقراطيات ويعملون، على أساسها، لإقرار بهرجة إعلامية تجري من خلالها عمليات اختيار للمسؤولين السياسيين ممّن ترضى عنهم النخبة الرأسمالية، ويكونون خير خدم للسّوق، ولاحظوا أن الزّعماء إما تجار (ترامب)، من نخب البنوك (ماكرون) أو عملوا في ظل السّيتي (جونسون)، إلخ.
نحن أمام قانون المعادلة التي بدأت بها المقالة، معادلة الموارد ضد الاحتياجات، ومعركة السوق، القيمة الأعلى، مع بقية القيم، ما زالت هي من تُسيّر العالم، فكلّ شيء سلعة ولكل سلعة قيمة، ومتى تناقضت قوانين توريد السلعة بالقيمة التي يريدها السوق، تنطلق مسارات الأزمات، ولعل لعبة اللقاحات ضد كورونا، حجّة على أن المعركة ستدور رحاها، على أشدها، بين قلاع الرأسمالية، وبخاصة أن العائدات المستقبلية هي بمئات الترليونات في قطاعات الطاقة البديلة، الرقميات والشرائح، إضافة إلى المركبات الكهربائية وقطاعات الخدمات الصحية، بصفة أساسية، بعد ظاهرة جائحة كورونا.
حاول الإعلام، عندنا، بل وفي العالم أيضا، بعد تنصيب الرّئيس الأميركي، جو بايدن، في يناير/ كانون الثاني الماضي، إقناع الناس، في رؤيةٍ تلبس لبوسها الجديد، بأنّ ترامب، المزاجي، كان ضد تعاليم الديمقراطية، ولكن العالم سيرى كيف أنّ بايدن سيعيد العمل بكل ما أقرّه سلفُه، التاجر، في صفقاته مع بقية العالم وستكون خطواته، مبنية على أساس سياسة: الصفقة والمقابل/ العائد لأميركا بشعار "لنعد لأميركا بريقها الأول ونجعلها الأقوى، على الدوام"، السوق الأكبر دائما.