في الدرس السوري الراهن

13 يناير 2025
+ الخط -

خُلاصة الخلاصات التي ينتهي إليها زائر دمشق، إذا ما حاوَرَ الناس فيها، وهم، في العموم، ليسوا كل أهل سورية، أن أولوية أولوياتهم، بعد الخلاص المذهل من نظام الأسد (ومعه الحضور الإيراني الضاغط)، أن تتوفّر لهم سبل العيش الطبيعي، ... فرص العمل والوظائف، الدُّخول التي تحمي من الحاجة والعوز، التعليم الجيّد، خدمات النقل الميسورة، الكهرباء بلا انقطاع، الاستشفاء، السكن الكريم. يتدبّر السوريون أمورهم في توفير بعضٍ من هذا، بمغالبةٍ ومكابدةٍ على الأغلب، سيّما الفئات المتوسّطة والفقيرة منهم. الصعوبةُ ظاهرةٌ في تأمين هذه المتطلبات. يحتاج السوريُّ إلى روحٍ كفاحيةٍ في مصارعته عيشَه. وإذا ما عقّب قائلٌ يقول إن هذا الحال قد ينسحب على شعوب غير بلدٍ عربي فهذا غير دقيقٍ تماماً، بفعل التخريب الهائل الذي أحدثه نظام الأسد في سورية، الغنيّة بإمكاناتٍ فلاحية وزراعيةٍ وصناعية ونفطية وإنتاجيةٍ كبرى، فضلا عن كفاءات أهلها وقدراتهم في مهنٍ وصناعات عديدة، وتميّز ذوي التعليم العالي منهم في اختصاصاتٍ كثيرة. وقد طاول التخريب الفادح النسيج العام للمجتمع السوري، مع إنشاء النظام طبقاتٍ طفيليةً استفادت كثيراً من السلطة وأجهزتها ومنظومات الفساد المريعة، حازت الحصّة الأوسع من موارد سورية وحركيّتها الاقتصادية.
المعنى مما تقدّم أن السياسة في منزلةٍ تاليةٍ من مشاغل الناس ومداولاتهم ونقاشاتهم، فلستً تلحظ أن شكل الحكم الذي ستستقرّ عليه البلاد موضوعةٌ مركزيةٌ ورئيسيةٌ لديهم. يكفي أن يكون هذا الحكم غير مخيف، يوفّر منابر القول والكلام، تكون فيه أجهزة الأمن المهنيّة موضع ثقة وتقدير، عملُها خدمة الناس وحمايتُهم، لا ترهيبهم والتجسّس عليهم ورميهم في الأقبية والزنازين وأقسام التوقيف والتعذيب. على هذا النظام أن ينهض بالبلد، أن يُسعفه، أن ينشله من قيعانٍ أخذه إليها نظام الأسد، الذي أقام جمهورية النهب المريع والاستبداد الفظيع. أن يعِد بالممكن، فلا يكذب، أن ينهمّ بالسوريين ونظافة شوارعهم ورقيّ تعليمهم في المدارس والجامعات ومعاهد التأهيل. عليه أن يُخلص لهم، يراهم مواطنين لا هتّيفةً للتطبيل لهم في مهرجانات التصفيق "لإنجازاته". يتوق السوريون إلى نظام حكمٍ من هذا اللون، لا يعنيهم كثيراً إن كان إسلامياً أم غير إسلامي، رئاسيّاً أم برلمانياً، يأخذُ بتعدّديةٍ حزبيةٍ أم يقيّدها. يبدو الناس، كما يلاحظ زائر عابر في بعض دمشق، غير مكترثين تماماً بأي جدالاتٍ سياسيةٍ، بشأن دستور سينكتب، أو انتخاباتٍ ستنتظم، أو حوارٍ وطنيٍّ سينعقد، بشأن أقليات وأكثريات. لا يرفضون النقاش في هذا كله أو بعضه، فللمثقفين وأهل الاختصاص والعمل في الشأن العام أن يخوضوا فيه بأيّ كيفيةٍ، غير أن الملحّ المركزي الضاغط على أفهامهم ومداركهم، ويوميّاتهم، أن يكونوا في أمنٍ وأمانٍ من أي توتّراتٍ من أيّ نوع، أن يطمئنوا إلى بعضهم، وإلى السلطة وأجهزتها، وإلى عدلٍ اجتماعيٍّ يقوم بينهم، وإلى دولةٍ لنفعهم، تتعاقد معهم على انتمائهما سويّاً إلى وطنٍ واحدٍ لجميع أبنائه، لكل مواطنٍ فيه كل حقوق العيش الكريم، كالمياه النظيفة والتدفئة في الشتاء والحافلات المريحة وما يُعين الإنسان على هناءة البال.
موجز الدرس السوري الراهن إلحاحُ الخدماتيّ وتقدّمه على السياسي، لكن الأمريْن مرتبطان بداهة، فالموضوعة السياسية في أي بلد محكوم بالتسلّطية والشمولية شديدة التأثير على التداول العام في شؤون اليومي والمعيشي. وواحدٌ من دروسٍ غير قليلة من تجارب شعوب عديدة أن أنظمةً قمعيةً وفرت لشعوبها متطلبات عيشٍ آمنٍ بسويةٍ مُرضية، غير أن هذا الحال كان يُخفي أسباب احتقان وغضب وفيرة، أخذت الإيقاع العام إلى أزماتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ ومعيشيةٍ حادّة، فأودت بتلك الأنظمة إلى مهاوي التاريخ. وفي البال أن سورية، في أطوار مضت من حكم البعث الأسدي، تيسّر لمواطنيها تعليمٌ جيد، وخدماتٌ مُرضية، ونظامٌ صحيٌّ لا بأس به، وبوفرة من المنتوج الزراعي، وبتأميناتٍ اجتماعيةٍ حمت فئاتٍ عريضةً في المجتمع، غير أن تفشّي ما تفشّى من أساليب قهريةٍ وحادّة في تسلّطيتها، وفي تجبّر أجهزة المخابرات ومصادرة المجال العام، أخذت سورية إلى خرابٍ واسع، فكان الحلم بالخلاص من نظام الأسد، ثم صار ما صار، وهرب الأسد، فاستجدَّ حلمٌ آخر، هل يتحقّق، ومتى؟

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.