Skip to main content
في الحاجة إلى عرفات وتجاوزه
سمير الزبن

يشير اجتماع المجلس المركزي الفلسطيني الباهت، قبل أيام في رام الله، لملء مناصب قيادية شاغرة في منظمة التحرير، إلى الدرك الذي وصل إليه الوضع الفلسطيني. وهو وضعٌ يُذكّر بالراحل ياسر عرفات، لأن الرجل لم يكن ليعقد اجتماعًا مختلفًا على شرعيته من أجل ملء فراغ قيادي. كما أن المقارنة مغرية بين أدائه وأداء الرئيس محمود عباس، على الرغم من مضي وقت طويل على غيابه.

رحل عرفات في ظروف معقدة مرّ الوضع الفلسطيني بها. نقول هذا مع معرفتنا أنه وضع كان وما زال معقدًا. غاب والوضع الفلسطيني معلق، لم يستكمل وجوده دولة ولم يعد ثورة، علق في فترة انتقالية قد لا تفضي الى الدولة مع استحالة العودة إلى الثورة. وما يزيد الوضع تعقيدًا هشاشة القوى السياسية الفلسطينية التي عبّرت عن نفسها في حالةٍ من الانقسام، ليس على مستوى الساحة السياسية فحسب، بل وداخل الفصيل الواحد أيضًا. مع الأخذ بالاعتبار أن إسرائيل استطاعت، خلال الأعوام السابقة على رحيل الرجل التأثير بشكل كبير على النواة الصلبة للفصائل الفلسطينية، خصوصا حركتي فتح وحماس، من خلال عمليات الاغتيال والاعتقال.

كان رحيل ياسر عرفات كاشفًا لضعف الوضع الفلسطيني وهشاشته وارتباكه، في لحظةٍ كان عليه أن يثبت تماسكًا أكبر على الأقل، وفاء للرجل الذي اختلف الجميع معه، لكن أحدا لم يشكّك في صلابته. لم تكن سياسته موقع إجماع. الكل اختلف معه، ولكن لا أحد اختلف عليه وعلى مكانته المركزية في التجربة الفلسطينية، وعلى انشغاله الدائم بقضية شعبه ورفع الظلم عنه. وبعد رحيله، سرعان ما تداعى الوضع الفلسطيني الصعب إلى وضع مزرٍ، فقد وصل الصراع بين الفصائل إلى صراع دموي، وانقسام الوطن إلى سلطتين، في ظل سيطرة الاحتلال، ما يعني انهيار المشروع الوطني الفلسطيني.

ما يزيد الوضع تعقيدًا في الحالة الفلسطينية هي هشاشة القوى السياسية الفلسطينية التي عبّرت عن نفسها في حالةٍ من الانقسام

اشتبكت حياة عرفات الشخصية مع تقلبات الوضع الفلسطيني، حتى بات الرجل مركز التوازن في الساحة الفلسطينية ورمز قضيتها. على ذلك قُرِئ مرضه قبل غيابه بوصفه قضية سياسية أكثر منها طبية، أكثر من أية شخصية أخرى، على الرغم من كل التراجيديا الشخصية في حياة الرجل خلال رحلته الطويلة مع التجربة الفلسطينية، فهو الذي استطاع الإمساك بالوضع الفلسطيني المعقد والمشتت أربعة عقود. واليوم نكتشف أن موته كان سياسيًا أكثر مما توقعنا.

بعد 18 عامًا على رحيله، يمكن قراءة الوضع الفلسطيني طبيًا، حيث كشف غياب عرفات الحالة البائسة للوضع الفلسطيني، فهناك مشكلات يعاني منها هذا الوضع كانت مكشوفة بوجوده، وأخرى كشفها الغياب، حجبتها مكانته، وبعد الغياب ظهر للعيان أن الوضع الفلسطيني مريض، وازداد مرضه مع الوقت إلى درجة دخوله في حالة الغيبوبة.

لقد أمسك عرفات بشبكةٍ من العلاقات العنكبوتية في الوضع الفلسطيني، رسمية مكشوفة (علاقات السلطة وحركة فتح ومنظمة التحرير)، وأخرى يغذيها من وراء الظهر (مع كتائب شهداء الأقصى والمجموعات المسلحة الأخرى المرتبطة بحركة فتح في الأراضي الفلسطينية). أمسك خيوط هذه العلاقات حتى أيامه الأخيرة. في الوقت نفسه، احتل مكانة رمزية في الوضع الفلسطيني، تجعل كثيرين في الساحة الفلسطينية مفجوعين برحيل الأب المؤسس، ويشعرون باليتم الحقيقي لغياب الرجل، مع ضعف الشخصيات التي تركها وراءه، والتي تشغل اليوم مركز الساحة السياسية الفلسطينية، ابتداء من الرئيس الضعيف نزولًا إلى الهيئات القيادية التي عبّرت عن مستوى مذهل من الضعف والهشاشة، وحالة غريبة من الغيبوبة والاغتراب المطلق عن الوضع الفلسطيني، سلطة وقيادة ليستا مهمومتين سوى بقضاياهما الداخلية الضيقة، ومصالحهما الهزيلة والحفاظ عليها، غياب مخز لأداء وطني تحتاجه المرحلة أكثر من أي وقت مضى، فلا يوجد اليوم في السلطة وقياداتها الأولى، من يملك المكانة الرمزية التي شغلها الرجل، ولا من يملك القدرة على الإمساك بشبكة العلاقات التي أمسك الرجل بها.

حتى لا يُؤرخ لرحيل عرفات نهاية القضية الفلسطينية، يجب متابعة الحلم والمشروع الوطني الفلسطيني

ليس التاريخ حتميا، بقدر ما هو رهانات البشر الذين يصنعون من خلالها مستقبلهم. والوضع الفلسطيني ستتحدّد اتجاهاته حسب الرهانات التي تكرّسها سياسات فلسطينية كارثية، تدار منذ رحيل الرجل، وهذا ما جعل الوضع الفلسطيني يحنّ إلى زمن القائد الذي يملك حساسيةً تجاه شعبه وقضيته، كل شعبه، فعندما لم يكن عرفات قادرًا على فعل شيء، كان يصرُخ معبرًا عن الألم الفلسطيني، واليوم ورثة عرفات غير قادرين حتى على الصراخ.

حتى لا يُؤرخ لرحيل عرفات نهاية القضية الفلسطينية، يجب متابعة الحلم والمشروع الوطني الفلسطيني المدافع عن حق الشعب الفلسطيني في استقلاله وحريته، والحقوق يمكن أن تتبدّد نهائيًا، إذا لم تجر إدارة الصراع بشكل صحيح للوصول إليها، الحقوق التاريخية تنتزع انتزاعًا، ولن تمنح إسرائيل الفلسطينيين حقوقهم عن طيب خاطر وكرم أخلاق، أو عن طريق الاستجداء. الحقوق يجب الدفاع عنها، حتى لا تتبدّد، وهذا ما يحتاج من الفلسطينيين تنظيم أنفسهم في مواجهة الاحتلال الذي يستمر بجرائمه في الأراضي الفلسطينية والسلطة الفلسطينية تتفرج.

كان رحيل عرفات كاشفًا لضعف الوضع الفلسطيني وهشاشته وارتباكه، في لحظةٍ كان عليه أن يثبت تماسكًا أكبر

على الرغم من كل الخلافات معه، وتقييم تجربته وأدائه السياسي، إلا أن عرفات حاول تكريس المشروع الوطني الفلسطيني على الأرض الفلسطينية. لم ينجح، لكنه لم يُغلق الطريق. رحل لكن القضية التي صنعته ما زالت قائمة. غاب وترك وراءه سلطة، مهدّمة، وقضية مستمرّة. من قفز إلى السلطة بعده اختار السلطة المهدّمة ومكاسبها التافهة، على حساب القضية الوطنية التي تحتاج رجالا آخرين، غير المجموعة البائسة الجالسة في المقاطعة في رام الله اليوم والمريدين الذين يدورون في فلكها.

ما زالت القضية الثقيلة تنتظر من يحملها، ليتابع الطريق للوصول إلى الحقوق الفلسطينية، لا يصلح القائمون على السياسة الفلسطينية اليوم للمهمة، ونمط عرفات والقيادة الأبوية الممسكة بكل الخيوط لم تعد صالحة أيضًا.

تحتاج القضية الفلسطينية اليوم إلى مؤسّسات لمتابعة المسيرة للوصول إلى الحقوق الوطنية، فلا القيادات القائمة صالحة، ولا نموذج ياسر عرفات بات صالحًا. يحتاج الوضع الفلسطيني إلى قطيعةٍ مع النموذج القائم، ومع نموذج القيادية الفردية ليستقيم في مؤسساتٍ فعّالةٍ في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.