في الحاجة إلى سلواد

18 فبراير 2025

جندي إسرائيلي عند المدخل الغربي لبلدة سلواد شمال رام الله (15/1/2023 الأناضول)

+ الخط -

يقفزُ الفرقاء الفلسطينيّون، في الوقت بدل الضائع، قفزاتٍ إلى غير الاتّجاه الصحيح المأمول وطنياً، فيبدو خبطَ عشواءٍ سعيهم إلى تدارك ما أمكنَ تداركه في الحالة الفلسطينيّة الصّعبة والدامية. وليس مبالغةً النّظر إلى قرار السّلطة الفلسطينيّة في رام الله، إلغاءَ المواد الواردة في القوانين والنظم المتعلقة بنظام دفع المخصصات المالية لعائلات الأسرى والشهداء والجرحى، ونقل برنامج المساعدات النقدية وقاعدة بياناته ومخصصاته المالية إلى مؤسّسة "تمكين"، من الزّاوية نفسها التي يُنظر منها إلى التّهجير والتّوطين؛ فتحويل مخصّصات الشهداء والأسرى والجرحى وعائلاتهم من قضيّة وطنيّة سياسيّة إلى قضيّة "شؤون اجتماعيّة" لا يقلّ خطورةً عن تحويل حقوق الفلسطينيين السياسيّة إلى مدنيّة، وتوطين اللاجئين الفلسطينيين والتنازل عن حقّ العودة، فقضيّة الفلسطينيين لم تكن يوماً حقوقاً مدنيّة أو شؤوناً اجتماعيّة، كما أنّه ليس من حقّ أحد أن يريقَ ماء وجوه عائلاتٍ قدّمت كلّ ما لديها لفلسطين، ولم تتسوّل أحداً.

يُدافع المنتفعون، والمنتفعُ لا يُناقش، عن القرار أنّه ينحاز إلى الأغلبيّة؛ إذ سيجبر إسرائيل على الإفراج عن أموال المقاصّة، كما يدّعون أنّ القرار لم يوقف المخصّصات بل نقلها، وهو الأمرُ الذي لم يتّضح إلى غاية اللحظة، إلّا أنّ مراسلاتٍ سُرّبت تدلُّ أنّه سيكون على تلك العائلات إثباتُ عَوَزها لتتلقى مخصّصاً مالياً بصفتها حالةً اجتماعيّة. وبالتالي، يمكن الجزمُ أنّ القرار لا يصبّ إطلاقاً في مصلحة الفلسطينيين وإن ادّعى ذلك، كما أنّه لن "يحميهم" من مخطّطات ترامب، ولا من ضمّ الضفة الغربيّة أو أجزاء منها، ولن "ينقذ" السّلطة التي ولغاية كتابة هذه الكلمات لم يذكرها ترامب منذ توليه الرئاسة بخير أو شر، كأنه لا يراها، وإنّما تحدّث عن الضمِّ ومساحةِ إسرائيل كأنها تُعادُ جملةُ بلفور: "أرضٌ بلا شعب".

خلال السّنوات الأخيرة، وبوصف السّلطة نظاماً غير مصمّم لمعالجة أخطائه وتداركها، اختفت (أو أخفيت) الأصواتُ المعارضة داخل هيكل السّلطة الفلسطينيّة، وأقلّ قليلاً داخل حركة فتح. وعليه؛ جاء رفضُ قدورة فارس، رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحرّرين، ملفتاً وتجدرُ الإشادة به، فقدورة (أو عبد القادر فارس حامد)، الذي من سلواد شمال شرقيّ رام الله، والذي قضى نحو 12عاماً في السّجون الإسرائيليّة، لم يكن أمامه إلّا أن ينحازَ إلى الأسرى الذين قضى جلّ حياته بينهم وفي متابعة ملفاتهم وأحوال عائلاتهم، ففي هذا الوقت الحرج تحديداً يبدو منطقياً وعقلانياً أن تنحاز القراراتُ والمواقف إلى الفلسطينيين لا إلى سواهم، وأن تنحاز السّلطة إلى مصلحة الفلسطينيين الوطنيّة، وإلى ما يوحّدهم، وهذا تماماً عكس ما تفعله، إذ ترى في كلِّ حراكٍ وطنيّ وحدويّ يروم تقديم تصوّر لإصلاح ما فسَد وهُمّش أنّه يهدّد "شرعيّة" التمثيل، وتسخّر جهدها وبياناتها لإلقاء التّهم، من قبيل "مجموعات ضالّة" و"حراكاتٌ مشبوهة"، عليهم.

قضيّة الفلسطينيين لم تكن يوماً حقوقاً مدنيّة أو شؤوناً اجتماعيّة

على الجهة الأخرى، لم تكن موفّقةً في توقيتها زيارة وفد حركة حماس إلى إيران، في وقتٍ يُنتظر من الحركة الاتّجاه أكثر نحو عمقها العربيّ (رغم تنبّهها إذ رَفَعت خلال التبادل السادس السبت أعلام خمسة دول عربيّة)، فليسَت مهمّة إطلاقاً إشادة المرشد الإيرانيّ بـ"أداء حماس الدعائي والإعلاميّ"، أو حتّى فلسفتُهُ في النّصر والهزيمة. ورغم أنّ مؤيدين للحركة اعتبروا أنّ الزيارة جاءت ضمن بحث ملفّ استقبال الأسرى المُبعَدين، غيرَ أنّها أثارت حفيظة عدة أطراف عربياً وفلسطينياً باعتبار التّوجه نحو إيران محلّ خلافٍ وفرقة وتشكّك، واستمراره لا يتناسب مع خطورة المرحلة الحاليّة. وربما يجدر بحماس اليوم استحضارُ (واستذكار) القرار الحكيم والمبدئي الذي اتخذته بقيادة خالد مشعل (حامد)، الذي من سلواد أيضاً، عام 2012 بالخروج من سورية، بعد نحو عشرة أشهر من انطلاق شرارة الثّورة السّورية التي حمل مشعل علَمها في مهرجانٍ لحركة حماس في ديسمبر/ كانون الثاني من العام نفسه، رافضةً الانحياز إلى النّظام ضدّ إرادة الشّعب السّوري. وليس خافياً أنّ ثمة تيارين رئيسيين في "حماس" سياسياً؛ تيارٌ أكثر انحيازاً للبُعد العربيّ والإخواني طبعاً، وآخر أقرب إلى إيران ودورها وأذرعها. وأظنّ أن الحكمة تقتضي أن يضطلع الأول بدورٍ أكبر، خاصّة في ظلّ إدارة ترامب التي تبحثُ عن منفى للفلسطينيين، والتي يواجهها رفضٌ عربيّ حاسم لمخططات التّهجير والتّوطين، مع التّخفّف من التوجه إلى إيران، بما يعزّز علاقاتها العربيّة، وعلاقاتها الفلسطينيّة.

على سفح جبل العاصور تمتدُّ بلدة سلواد، التي قدّمت خيرة أبنائها على مدار سنوات النّضال الفلسطينيّ شهداء، وأسرى ما زالوا في السّجون (إبراهيم مرعي حامد، ثائر حماد.. وغيرهما)، وآخرين حُرّروا في الصّفقة الأخيرة، والتي أغلق الاحتلال بالبوابات الحديدية جلّ مداخلها، في الوقت الذي صادر فيه الاحتلال ومستوطنوه آلاف الدونمات من أراضيها، وبدأوا حديثاً ببناء نواة بؤرة استيطانيّة جديدة، وهي قدّمت نموذجين نقيضَين سياسياً موحدَين في التّوجهات الوطنية. لذا؛ حريٌ بالفرقاء الفلسطينيين، في هذه المرحلة والمقتلة، وفي هذا التوقيت، بدلَ القفزات في غير الاتجاه الصّحيح، أن ينحازوا إلى فلسطين موحّدة وإلى شعبها وإلى العمق العربيّ، وإلى وحدة فورية غير مشروطة رغم صعوبتها، مستندين إلى الرفض الدولي التام لمخطّطات ترامب علّ ذلك يعيد أفقاً سياسياً غاب واستراتيجيّة وطنية تآكلت، وعلّ ذلك يقي الفلسطينيين من تشرّدٍ إضافيّ في العواصم.

مهند ذويب
مهنّد ذويب
كاتب وصحفي فلسطيني في الرباط.