في التوظيف الظالم للصوفية والزهد

في التوظيف الظالم للصوفية والزهد

06 يونيو 2022

(محمود صادق)

+ الخط -

حين يخفق الحاكم فإنه لا يقتصر على الظلم، الاقتصادي والاجتماعي، ولكنه يتعسَّف في تفسير المعاني الإنسانية، والدينية؛ لعله يغطِّي بها بعضَ آلام حكمه الماثلة للعيان. مناسبة هذا الكلام ما استدعاه الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، من قصة حصار بني هاشم في شِعْب أبي طالب، حين منَع سادةُ قريش، آنذاك، الطعامَ والأقوات عن النَّبي، ومَن انحاز له من بني هاشم وبني المطلب، ثلاث سنين، حتى اضطرّوا إلى أكل أوراق الشجر.
هذه الصفة التي يتّكئ عليها السيسي، هنا، حتى الإسراف، وهي التحمُّل والصبر، على سياساته، تتموضع في خطابٍ دينيّ، شجَّعَه حاكمُ مصر، منذ انقلابه على حُكْم الإخوان المسلمين، وهو خطابٌ ينحو منحى التصوُّف المسالِم، أو المهادِن، والمتوائِم مع توجيهات الدولة، بما يسهم في منْحِ النظام الحاكم شرعيةً دينيةً مطلوبة.
وفي السياق الأوسع، لطالما استُخدِمت الصوفية؛ في الخطاب الديني المقرَّب من الدولة، عربيّاً، بوصفها اتجاهاً يهدف إلى تصفية النفس، وتزهيدها بالمتع المادّية واللذائذ الحسِّية؛ لصرْفِ الأذهان عن واجبات الدولة، ومسؤولياتها، وَفْق ما مُنحِت مِن إمكانات، أو ما احتكَرتْ، من سلطاتٍ تمكِّنها من الاستئثار بمعظم ثروات البلاد، ومرافقها الاقتصادية.

استُخدِمت الصوفية آليَّةَ تعطيل، أو تخدير، وإقصاء عن الانشغال بالأمر العام، إلى الشأن الروحي، الفردي، التأمُّلي، الوجداني

ومع استئثار الأنظمة الاستبدادية بالقرار والتدبير، والسيسي، مثلاً، مثالٌ صارخٌ، على الانفراد بالرأي، والإيهام بالإلهام المترفِّع عن المساءلة، أو حتى المناقشة، من ذوي الرأي والاختصاص، فإن المسؤولية الكبرى فيما تؤول لها البلاد والناس، إنما تقع عليه، وعلى إدارته. كذلك استُخدِمت الصوفية آليَّةَ تعطيل، أو تخدير، وإقصاء عن الانشغال بالأمر العام، إلى الشأن الروحي، الفردي، التأمُّلي، الوجداني. مع أنَّ تلك الملاذات وجدت، وتجد رواجاً، في الوقت الراهن، مع اشتداد الأزمات والخيبات، الكبرى؛ لينكفئ الفرد؛ من سطوة الحياة، على نفسه، ولكي لا يبقى مصلوباً تحتَ الشعور بالعجز، أمام تحدِّياتٍ تمارسها قوى مادّية، لا قِبَلَ له بها، أو أنّ الصوفية تُستدَعى كردٍّ واعٍ، أو غير واعٍ على تيَّارات عالمية، ومجتمعية تحتفل بالاستهلاك والنَّهَم، بما يُخرِّب الروح، أيضاً، حين يجري إفقار الحياة، ومناشطها المتنوِّعة، إلى التنافُسية المادية، والمباهاة، والتفاخُر.
ولسنا في وارد التهوين من أهمية البُعْد الروحي، للإنسان، الفرد، والمجتمع، في كلِّ الأوقات؛ في أوقات الأزمات، وحتى في أوقات الرّخاء، ولكن الخطر والإضرار إنما يكونان في المغالطة، وسوء التوظيف؛ لجعْلِ الناس والشعوب، وبما انطوت عليه من طاقات خلّاقة، مجموعاتٍ من الدراويش والمُغيَّبَين، ليوفِّر ذلك فرصةً سهلةً للقُوى الغاشمة، داخليّاً، وخارجيّاً، للنَّيْل من الشعوب والأوطان، والمقدَّرات.
ذلك أنه لا تعارُضَ بين الصفاء الروحي، والزهد بالمتع التي لا تكاد تُحَدّ، وبين تحمُّل المسؤوليات، وحساسية الهمِّ الجماعي، بل إن تلك الروحية المتعالية عن الأنانية مِن أهمِّ متطلبات التضحية، وقد شهد تاريخُنا البعيد والقريب حالاتٍ فريدةً من الجمع بين التصوُّف والزهد، من جانب، ومعاني الانتماء، من جهة أخرى.
ومشتهرٌ دورُ الصوفية في مقارعة الاستعمار، كما من محمد بن علي السنوسي، ومحاربته الاستعمار الفرنسي، وغير بعيدٍ عن ذلك المجاهد الليبي، عمر المختار، الذي سار على تعاليم الطريقة السنوسية، وخاض ضد الاستعمار الإيطالي لبلاده معارك موجعة، وكذا ما كان من محمد أحمد بن عبد الله المهدي، وجهاده ضد الاستعمار البريطاني في السودان.
وكما حدَّثنا به عبد المنعم الجميعي، في معرض عرضه كتاب عبد الله النديم "كان ويكون": "إنه قد أشرف على اختفاء النديم، خطيب الثورة العُرابية، جهازٌ من الوطنيين المصريين ساعدُوه على الاختفاء عن عيون الحكومة، وأمدُّوه بالكتب والمراجع التي ساعدته على التأليف والكتابة. ومن هؤلاء الشيخ شحاته القصبجي، أحد مشايخ الطرق الصوفية المشهورين".

للشعوب حاسَّة لا تخطئ، ولا تُخدَع، طويلاً، فهي حين لا تثق بالحاكم، ولا تراه يحقِّق نتائج ملموسة

صحيحٌ أنه يلزم الحاكم أنْ يواظب على تعبئة شعبه، باستخدام ما يتناسب من أدواتٍ منبثقةٍ من ثقافة هذا الشعب؛ لكي يكون متضافراً مع الدولة، في سياساتها الإنقاذية، والارتقائية، ولكن الدولة أيضاً عليها مسؤوليات، لا يقوم بها إلا هي، ولا تُطلَب مِن سواها؛ وذلك لما اختصَّت به الدولةُ من قدراتٍ مادية، وصلاحيات قانونية، ورِعَائيَّة شاملة.
وإذا لم تفعل، فإن للشعوب حاسَّةً لا تخطئ، ولا تُخدَع، طويلاً، فهي حين لا تثق بالحاكم، ولا تراه يحقِّق نتائج ملموسة، بعد أن تكون قد صبرت عليه سنين عديدة، حينها لا ننتظر منها أن تقبل التلهّي بأحاديث الصبر والتحمُّل، وهي ترى سوء التوزيع، والامتيازات التي لا يزال يتمتَّع بها المسؤولون والمقرَّبون منهم.
وعليه، إذا نجت مرامي الصوفية والزهد من التفسيرات السلبية، أو من سوء التوظيف السياسي، فهي تكون مرامي تبعث في الأفراد والجماعات معاني السموّ، لا الخنوع، والعمل، لا العَطالة، والفعل الجماعي، لا الانكفاء. والسيسي، وهو يدرك العاطفة الدينية عند شعبه، لا بدَّ أنه يتذكَّر أيضاً، مسؤولياتِه تُجاههم، ووعودَه الإصلاحية التي أكّدها، على مسامعهم، مراراً. ثم هو بعد أزيد من ثماني سنوات من الحُكْم الذي غلَب عليه الاستبدادُ والتفرُّد، وبعد مضاعفته، في سبيل ذلك الإصلاح، ديونَ مصر، ينتهي إلى تهيئة شعبه إلى الجوع، وأكل أوراق الشجر، تأسيّاً بحصار آل هاشم في شِعْب أبي طالب.
هذا ومن المستغرَب فعلاً، أن تعجز مصر، ودولٌ عربية سواها، عن مراعاة الأولويات في مشروعاتها وبرامجها، بحيث تخفق حتى في توفير ضروريات الطعام، والخبز؛ فماذا أهمُّ من الأمن الغذائي؟