في التعليم .. الفقر ليس حنوناً

في التعليم .. الفقر ليس حنوناً

20 يناير 2021
+ الخط -

لم يخطر ببال خبراء التعليم في الأردن أن شكواهم المتكرّرة قبل 2020 (أو قبل وباء كورونا بشكل أدق) من ابتلاء التعليم في الأردن بإشكالات حكومية وتشريعية ومجتمعية عديدة ستتحول من نقاش نخبوي متخصص إلى حديث يومي في غرف المعيشة في كل بيت. 
على مدار سنوات، حولت السياسات التعليمية في الأردن (وربما في دول عربية عديدة) التعليم من حق طبيعي تكفله الدساتير الوطنية والمواثيق الدولية إلى امتياز طبقي يتحكّم فيه مدى ثراء الأسر أو مدى رغبتها بأن تظهر كذلك، في مجتمعاتٍ استوطنها الفقر، وتُركت منفردةً فريسة للرأسمالية الجديدة المتوحشة، حتى إن الحكومات نفسها أحيانا لا تفصح عن نسبه الحقيقة. وارتفعت أصواتٌ بمرارةٍ أنه ما الجدوى من مبادرات "مزركشة" متخصّصة بالتعليم، والمناهج قاصرة عن منح الطلبة معلومة جديدة مواكبة للزمن الذي يعيشه، والمعلم بين سندان ضعف التأهيل (والتدريب) وتدني المدخول بشكل مبالغ فيه.
لا أنسى حديثي مع معلمة في إحدى المدارس الخاصة ذات المستوى العالي جدا (المدارس الخاصة مصنفة بشكل طبقي في الأردن) وهي تشكو بخجل "في نهاية اليوم الدراسي، أعطي دروسا لتلاميذ يرتدون في يومهم العادي أحذية وملابس تكلفتها تساوي راتبي شهرا". وخسرت طالبة في المرحلة المتوسطة علامة في امتحان، لأنها صحّحت معلومةً لمدرّسة طلبت جوابا حرفيا لسؤال، لم تقدّمه تلك الطالبة، لأن تعديلا تشريعيا طرأ على موضوع السؤال، وصودف أن الطالبة تستقي معلوماتها بشكلٍ محدَث من قنوات مختلفة بعكس معلمتها.

بتنا نشهد زيادة في تعميق الهوة بين الأسر، خصوصا في تداعيات وباء كورونا غير الصحية

ولامست مسامعنا وحرّكت شجوننا عبارات اعتصامات ووقفات احتجاجية وحوارات على صفحات التواصل المجتمعي، تصب في أن التعليم في الأردن أصبح "برجوازيا"، أي إن من يملك يستطع تعليم أولاده بشكل محترم ونوعي في مدارس خاصة، ومن لا يملك يلحقهم بالمدارس الحكومية، وهو يعلم أنهم لن يحظوا بفرصة مناسبة في التعليم، وبالتالي قد لا يحرزون فرص عمل في المستقبل. 
أصبح الحديث اليوم مختلفا جدا، وأخذ منحىً أكثر خطورة، لأننا بتنا نشهد زيادة في تعميق الهوة بين الأسر، خصوصا في تداعيات وباء كورونا غير الصحية، وأبرزها في مجال التعليم؛ فالعائلات المقتدرة باتت أقدر على التكيف مع الظروف الصعبة في ظل الوباء، وخصوصا في نوعية التعليم وفرص الوصول إليه، فأدوات التعليم عن بعد (الأجهزة الذكية بأنواعها، الربط بالشبكة العنكبوتية، عدد العائلة القليل نسبيا وحصول الأبناء على فرص حياة أفضل ... إلخ)، متاحة، والخيارات متعدّدة، ولديهم ميزة اختيار الأفضل والأحدث والأسرع، بعكس الأسر الفقيرة، أو حتى المتوسطة، التي تراجعت دخولها بشكل مخيف، بسبب الوباء وتداعياته الإقتصادية.
قاومت الأسر الأردنية بشكل يائس وبمحاولات جبارة لإبقاء الأطفال منتظمين في التعليم، حتى ولو عن بعد، وتحملت سوء المنصّات وعدم جدواها وفاعليتها، والتي كانت سببا في انحدار نسب الطلاب الملتزمين بها، وحتى في تقديم الامتحانات والواجبات عبرها (باعتراف وزارة التربية والتعليم نفسها). وهو الأمر الذي لم تعان منه الأسر الميسورة، لأن كل مدرسة خاصة طوّرت منصّات تفاعلية خاصة بها، وألزمت مدرسيها وكادرها بتقديم أفضل الخدمات التعليمية للطلاب، بل وأشركت الأهالي بذلك. وقد دفع هذا التناقض الطبقي الكبير خبراء وناشطين إلى إطلاق حملة وطنية تعمل، بشكل حثيث، لإقناع الحكومة بالعودة عن قرار التعليم عن بعد، خصوصا للصفوف الأولى، فقد كان واضحا عبثية العملية التربوية لهذه الفئة إلكترونيا.

تنفسّت العائلات الأردنية الصعداء، بعد قرار عودة المدارس وجاهيا إلى بعض الصفوف، وبشكل تدريجي، ولكن الحذر والشك ما زالا مسيطرين على الأحاديث

كما أن تسرّب الطلاب إلكترونيا تجاوز بشكل لافت نسب التسرّب من المدارس التي كنا نعاني منها في السابق. وقد التقيت مع طفل في المرحلة الأساسية يحمل هاتفا ذكيا مشبوكا عبر الإنترنت على المنصة الحكومية، ولكنه عمليا يعمل بنقل البضائع في سوق وسط البلد لمساعدة أسرته التي فقد معيلها وظيفته بسبب كورونا، وقال ببراءة "المعلم شايف إني موجود بكفي ... لازم أساعد عيلتي"، وأمثاله الآلاف في البوادي والمخيمات والأطراف، فالفقر ليس حنونا، ولا يراعي حقا أو حاجة!
غالبية ناشطات الحملة التي تطالب بالتعليم وجاهيا في المدارس هن أمهاتٌ عاملاتٌ تضرّرت أعمالهن بشكل كبير، لأن "التدريس" مهمة الأم في العائلة الأردنية، وليست مسؤولية عائلية في المجمل. وما كنا نشكو منه في السابق من تراجع مشاركة المرأة الاقتصادية زادته كورونا بلة، فالأم التي لم تفقد وظيفتها جبرا فقدتها طوعا بسبب عدم قدرتها على التوفيق بين البقاء في العمل والبقاء مع أطفالها خلف الشاشات لتلقّي التعليم.
صحيحٌ أن العائلات الأردنية تنفست الصعداء، بعد قرار عودة المدارس وجاهيا إلى بعض الصفوف، وبشكل تدريجي، ولكن الحذر والشك ما زالا مسيطرين على الأحاديث، خصوصا في ظل التصريحات لمنظمة الصحة العالمية إن "الوباء في عامه الثاني أشد وطأة" من جهة، ومن جهة أخرى تجربة سابقة مع الحكومة الأردنية التي سمحت بالعودة إلى المدارس في الشهر الأول من الفصل الدراسي المنصرم، واضطر الأهالي لدفع أقساط المدارس كاملة لحجز مقاعد لأبنائهم، ثم أُلزم الجميع بالتعليم عن بعد. ونقلت عائلات عديدة أبناءها من مدارس خاصة إلى أخرى حكومية، وعائلات أخرى تكبّدت قروضا لضمان استمرار تعليم أبنائها، وعائلات أخرى كفرت بالتعليم وأهملت تعليم أولادها، بل ودفعت بهم إلى سوق عمالة الأطفال قليل الأجر وبالغ الخطورة والانتهاكات. وهذا ما يزيد تحدّي نوعية التعليم في الأردن وتراجع جودته، ويعمّق القلق والحزن بتراجع مطالبات تحسين نوعية التعليم للأطفال في كل مكان، من دون اعتبار لدين أو عرق أو مستوى اجتماعي، وباتت اليوم ترفا في ظل المطالبة بضمان التزام الأطفال في مدارسهم.

عطاف الروضان
عطاف الروضان
إعلامية أردنية، متخصصة في الإعلام المجتمعي والتنموي