في الأحجية السودانية

13 يونيو 2025
+ الخط -

استمع إلى المقال:

يعاكس فائض الحميميّة في مصافحات لقاءات القيادتين، المصرية والإماراتية، في زياراتٍ مبتادلةٍ متواترةٍ، المسافة الواسعة بين خياراتٍ سياسيةٍ وأمنيةٍ إقليميةٍ لكل منهما، في غير ملفٍّ وقضية. ولمّا كان السودان شأناً مصرياً، منذ الأزل (؟) بحكم عوامل التاريخ والجغرافيا، فإن ثمّة ما يقترب من الأحجية في زوبعةٍ من أسئلةٍ تتعلق بالتحالف المشهر بين أبوظبي وقوات الدعم السريع، المليشيا التي تُناهض الدولة وتُحارب الجيش وترتكب الفظائع في السودان، فيما تُساند القاهرة الجيش في البلد الجار، من دون أن تتورّط في دعمٍ عسكريٍّ مشهود، وذلك لأن الرؤية المصرية تصطفّ مع الدولة ومؤسّساتها، وإنْ تتحفّظ على رهاناتٍ و"ألاعيب" لا تروق لها لدى قيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان الجيش والدولة ومجلس السيادة (هل ما زال قائما؟). وبعيداً عن أحاجي السجالات السودانية، المضجرة، فإنك، أياً كان حذرُك من "الكيزان" (المفردة السودانية التي تعني إسلاميي نظام عمر البشير) في السلطة التي يتولّى واجهتها الجنرال البرهان (على ما يقولون)، لا تملك إلا أن تكون مع مؤسّسات الدولة، وأولها الجيش، سيّما وأن ذرائع زعيم "الدعم السريع"، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، في عناده لمواصلة الحرب، في نهج انتحاري شديد الطموح، لا تُقنع فتىً في الابتدائية، عندما يُشيع هذا الرجل سعيه إلى الديمقراطية والشراكة، من دون أن نشتري بضاعة الطرف الآخر (وهو عنوان الدولة في محملٍ ما) عنهما.

تُهاجم المليشيا، المسلّحة جيداً، والمدعومة من الإمارات وغير طرفٍ في الجوار، مثلث الحدود السوداني مع مصر وليبيا، وربما صدقَ قولُها إنها سيطرت عليه، ويقول جيش البلاد إنه أخلى هذه المنطقة في إطار ما وصفها "ترتيبات دفاعية لصد العدوان"، واتّهم قوات اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر بدعم هذا الهجوم، غير أن هذه، وتسمّي نفسها "القيادة العامة للجيش الليبي"، نفت هذا، واعتبرت أن "هذه المزاعم الإعلامية محاولة مفضوحة لتصدير الأزمة الداخلية السودانية وخلق عدو خارجي افتراضي". وأيا كان الغلط والصحّ في مقادير الاتهام ونفيه، إلا أن في كلٍّ منهما بعضَ الصحة، فليس في وُسع مليشيا حميدتي وحدها، من دون إسنادٍ بشري لازم، أن تبادر إلى عمليةٍ كهذه. وعلى أهمية هذا البعد الميداني، فإن حضوراً للسياسة يفرض نفسه، سيّما في ما يخصّ مصر التي يُربكها مستجدٌّ على هذه الخطورة، ويجعلها في حرجٍ غير هيّن، بالنظر إلى علمها المؤكّد أن حميدتي ليس له أن يُقدم على فعلٍ كهذا من دون تنسيقٍ ما مع أبوظبي، أو إخطارها. وإذا صحّ أن مليشيا هذا الرجل سوندت من حفتر، فإن أكثر من ضوءٍ أحمر قد لمع في مثلث العيونات الذي يربط بين حدود مصر الجنوبية والسودان وليبيا. ولا يحتاجُ واحدُنا أن يكون في ثعلبيّة الجنرال رومل ليعرف أن القاهرة ملزمةٌ، أقلّه من أجل سمعتها، أن تعمل عسكرياً واستخبارياً على تطويق تداعيات هذا الحدث، بل وأن تساند أي تحرّكٍ من الجيش السوداني لاستعادة هذا المثلث، فبقاؤه تحت سيطرة حميدتي يعني أن خطوط إمداد الأخير بالسلاح (والمرتزقة) تعزّزت، وأن فرصه الميدانية من أجل استدراك خسائر مُني بها ستقوى. فضلاً عن أن القاهرة مطالبةٌ، في الوقت نفسه، بأن تصارح أبوظبي بما كان يلزم أن تصارحها به منذ سنوات، فالمصافحات شديدة الود بين الرئيسين عبد الفتاح السيسي ومحمّد بن زايد لا يصحّ أن تتقدّم أولويةً أمام ما يخدش أمن مصر وسلامة أراضيها، سيّما وأن الحرب على الإرهاب، بألوانه كافة، عنوانٌ ثقيل القيمة في صدارة المشاغل المصرية، الملحّة والمحقّة، وثمّة إرهابٌ كثيرٌ لو تُركت منطقةٌ حدوديةٌ بهذا التشابك بيد مليشياتٍ لم تنضبط وهي في زقاق الخرطوم، ولا نظنّها هناك ستحرّر من غوايات جمع المال والإتاوات في عمليات تهريب السلاح والممنوعات.

واحدةٌ من خواطر سيّارةٍ يشعلها التطور العسكري هذا في السودان أن علينا أن نتسلّح (أو نتحلّى؟) بمزيدٍ من اليأس من اقتراب أي أفقٍ لنهاية هذا النزاع العبثي (مع الاعتذار لاستخدام هذا الوصف التقليدي)، والذي تشتدّ وتيرة العنف فيه، رغم ما لحق بالمليشيا من خسائر مشهودة، لم تجعل حميدتي وداعميه يراجعون الحسابات، فيعيدون التموقع السياسي بإيجابيةٍ مع جهودٍ تنشط وتخفُت من أجل الوصول إلى نهايةٍ ما لهذا الجنون، والذي ما تنفكّ أحجياتُه تتراكم واحدةً بعد أخرى، من قبيل حميميّة العلاقات الإماراتية المصرية في القاهرة وأبوظبي وتضادّها في مثلثٍ صحراويٍّ يجاور ليبيا ويلاصق تشاد.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.