في استعصاءات الحكومة اللبنانية

07 فبراير 2025
+ الخط -

قد يبدو للوهلة الأولى أن حالة لبنان السياسية تقدّمت في مرحلة جديدة، وأن تشكيل حكومة إنقاذ سهل المنال، وأن الحكومة العتيدة يمكن أن تجمع الإرادات والنيات لنشهد نوعاً من انطلاق عملية الإصلاح والإعمار، إلا أن الأسابيع التي فصلت بين انتخاب جوزاف عون رئيساً للجمهورية، وتكليف نوّاف سلام تشكيل الحكومة، وصولاً إلى اليوم، أعادت خلط الأوراق، لتكشف استعصاءات لبنانية لا حدّ لها ولا قرار، مجموعة من المعيقات تطيح كلّ ما يمكن أن يأخذ لبنان من سياق الانهيار التدميري إلى سياق التعافي، أو أقلّه إلى سياق قد يصل لبنان بموجبه، في إحدى مراحله المستقبلية، لبداية وضعه في سكّة التعافي فعلاً.

أسابيع مرّت والمستعصيات تزيد تباعاً، في حين أن المطلوب حكومة في مقدّمة أولوياتها الشروع في إعادة إعمار ما دمّرته الحرب الماضية، لكنّها إعادة إعمار مشروطة بالدولة حصراً، كما أعلنت الإرادة الدولية التي تشرف على الشاردة والواردة، منذ لحظة إعلان وقف إطلاق النار، مروراً بانتخاب رئيس الجمهورية، وتكليف رئيس الحكومة، والآن سياق تأليف الحكومة، مع إنذارات واضحة في هذا الخصوص، من دون أن ننسى الأولويات الأخرى التي لا تقلّ خطورةً، منها شرط القيام بالإصلاحات الضرورية قبل أيّ مساعدة قد تعطي لبنان فرصةَ الحدِّ من حالة الانهيار، وصولاً إلى شرط إنجاز الحكومة ملفَّ الانتخابات البلدية المؤجّلة منذ سنوات، والأخطر منها الإشراف على استحقاق الانتخابات النيابية بعد سنة وعدّة أشهر، ناهيك عن التصادم مع القوى التي تُشكّل الدولة العميقة، أولئك الذين يحاولون حجز حقائبَ وزارية سيادية وخدماتية تسمح لهم بتحسين شروطهم لحجز مكان مريح لهم في المجلس النيابي المقبل، فيستعيدون كتلهم النيابية نفسها، إن لم نتكلّم عن محاولات زيادتها. هذا كلّه، من دون أن ننسى إصرار الثنائي الشيعي على أن تكون حصّة وزارة المالية للطائفة الشيعية، وأن تكون شخصية يوافق عليها الثنائي "أمل" وحزب الله، بما يعني تعارضاً واضحاً مع الإرادة الدولية، تعارض قد يصل إلى ما لا تحمد عقباه إذا ما تشكّلت حكومةٌ لا تنال ثقةً تسمح بتدفّق أيّ مساعدات خارجية، حكومة ترضخ لتحالف المافيات والمليشيات اللبنانية فلا تعيد الترميم، ولا تعيد للمودِعين أموالهم، ولا تستطيع وضع خطّة تعاف للبلد، ولا تنال بالتالي ثقةَ أغلبية اللبنانيين. والأسوأ أن نعود إلى الحالة السابقة لانتخاب عون، مع ما يمكن تفسيره من العدوّ بأنه عودة إلى التغطية على حزب الله، فتكون حجّة إسرائيل لاستئناف حربها على لبنان، مرتكزةً إلى عدم التزام الدولة اللبنانية بالشروط المنصوص عليها في اتفاق وقف إطلاق النار.

كلها استعصاءات لا يبدو أن هناك علاجاً لها من داخلها، بل يبدو أن العهد الجديد، برئيسَيه عون وسلام، أمام التحدّي الأصعب. فإمّا أن يرضخا لطرف الثنائي الشيعي، ويفتحا الباب على مصراعيه أمام الرضوخ لقوى النظام السابق نفسها، التي أوصلت البلاد إلى الانهيار، أو الذهاب نحو قلب الطاولة بالتمام والكمال من خلال اعتماد معيار واضح يقوم على ضخّ دم جديد في الوزارة وفي الحكم، من خلال توزير شخصيات مستقلّة تحمل توجّهات سياسية تغييرية تسمح لهم بالقيام بما يجب أن يقوموا به، أيّ أن يشكّل عون وسلام حكومة تحمل مشروعاً سياسياً قادراً على إنقاذ البلد، وليس مُجرَّد حكومة تكنوقراط لا لون ولا نكهة سياسية لها، وتخدم النظام السابق وقواه، أكثر ممّا تخدم محاولة وضع البلد في سكّة الإنقاذ.

لم يعد أمام عون وسلام في سبيل تغيير حالة الاستعصاء، إلا وضع النقاط على الحروف

من المستهجن، بعد كل ما مرّ به لبنان، أن تأخذ عملية التشكيل هذه المدّة من دون أن يظهر الدخان الأبيض بعد، ومن المستهجن أكثر أن تُربَك عملية تأليف الحكومة جرّاء الرضوخ لقوى استباحت الدولة في السابق وأوصلتها لحالتها الراهنة هذه، بدل أن تُعبّر عن الإرادة الشعبية، ويُشكّلها الرئيسان انطلاقاً من رؤيتهما للتعافي وللخروج من المأزق، كما استشّف اللبنانيون والمراقبون الدوليون من خطاب القسم الذي أدلى به جوزاف عون، كما من خطاب التكليف الذي أدلى به نوّاف سلام. فالرئيسان يعلمان جيّداً أن الثقة والارتياح الشعبي، والثقة والارتياح الدولي، كانا بسبب هذين الخطابين تحديداً، إذ عُلِّقت الآمال على ترجمتهما حكومةً جديدةً تعمل على استعادة الثقة بالدولة، وعلى إعادة عقارب الساعة السياسية إلى خطاب الدولة، بما يعني حصرية امتلاك السلاح، وبما يعني بسط سلطة الدولة وأجهزتها الشرعية في كامل الأراضي اللبنانية، وبما يعني خوض المعركة الدبلوماسية لإجبار العدو على الخروج من الأراضي الجنوبية التي يحتلّها حتى اللحظة.

لذلك، لم يعد أمام الرئيسَين، بعد هذه المدّة كلّها، وفي سبيل تغيير حالة الاستعصاء، إلا وضع النقاط على الحروف، وقلب الطاولة على القوى كافّة، التي تحاول ابتزازهما لنيل الحكومة ثقة المجلس النيابي، في حين أنهما متسلّحان بالضغط الدولي وبالدعم الشعبي، وفي حين أنهما يعلمان جيّداً أن الذهاب باتجاه حكومة من المستقلّين، الذين يحملون مشروعاً سياسياً تغييرياً للدولة، ولنظام الاستعصاءات السابق، يزيد الالتفاف الشعبي حولهما، ويحصّنهما داخلياً ودولياً، ويضع القوى التي قد تحجب الثقة عنهما في صراع مباشر مع الأغلبية الشعبية من ناحية، ومع الضغط الدولي من ناحية ثانية.

باسل. ف. صالح
باسل. ف. صالح
كاتب لبناني، أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية