في استعادة العدوان الصهيوني على تونس

في استعادة العدوان الصهيوني على تونس

03 أكتوبر 2020

ياسر عرفات وآخرون في موقع القصف الإسرائيلي على مقر منظمة التحرير في تونس (1/10/1985/Getty)

+ الخط -

شنّت الطائرات الصهيونية، في الأول من شهر أكتوبر/ تشرين الأول 1985 اعتداءً على منطقة حمام الشط السكنية، وهي إحدى ضواحي العاصمة تونس. كان المبرّر المعلن لذلك الهجوم العدواني تصفية قادة منظمة التحرير الفلسطينية، ولكن الذين قتلوا وأصيبوا من الجرحى والشهداء كانوا من المدنيين، غالبيتهم من الفلسطينيين وبقيتهم من التونسيين، 68 شهيدا ومائة جريح. وقد تبجّح الكيان الصهيوني، كعادته، بهذه العملية، واعتبرها تندرج ضمن الدفاع عن النفس. وبغض النظر عن التفاصيل التي أحاطت بالعملية، فإنها شكّلت حدثا كشف عن الطبيعة العدوانية لهذا الكيان. 

في ظل تصاعد حملات التطبيع العربي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، أصبحت محاولات تزييف التاريخ وتغيير الحقائق والمعطيات جزءا من السياق العام والحملة الممنهجة لمسخ الذاكرة وتغييب الوعي، واختلاق قراءة جديدة لتاريخ المنطقة، عمادها تصوير الصراع العربي الصهيوني بوصفه مجرّد خلافٍ حان الوقت لحله ومجاوزته.

ظل الخطاب العربي الرسمي يتحدّث عن الصراع مع الاحتلال الصهيوني صراع وجود، لينتقل إلى مرحلة اختصاره لمجرد صراع إسرائيلي/ فلسطيني، ولينتهي حاليا إلى اعتباره خلافا في وجهات النظر

ولم تكن عملية "الساق الخشبية"، كما تسميها الأجهزة الصهيونية في توصيفها العدوان على حمام الشط هي العملية الأخيرة، فقد لحقتها عملية تصفية القيادي الفلسطيني خليل الوزير (أبو جهاد) في إبريل/ نيسان 1988، وبعدها اغتيال المهندس التونسي محمد الزواوي في ديسمبر/ كانون الأول 2016. سلسلة من الأعمال العدوانية التي تكشف جملة من الحقائق، أولها أن الصراع مع الكيان الصهيوني يتجاوز كونه احتلالا للأرض الفلسطينية، وإنما هو في جوهره تهديد للمنطقة العربية برمتها، وأن الذين يحاولون الاحتماء بالمنطق القُطري للنأي بأنفسهم عنه إنما يخادعون شعوبهم، فكل تطبيع مع هذا الكيان لا يخرج عن سياق الخضوع له، وتنفيذ رغباته المعلنة، والانسياق لطلباته الخفية بشأن تكريس هيمنته المطلقة، وتكريس وجوده باعتباره اللاعب الرئيسي الذي يحدّد الخيارات المستقبلية للشعوب العربية.

تعمل نظم عربية على بث روح الهزيمة أو ترويج فهم خاطئ لمعنى التسامح والاعتراف بالآخر، كما يفعل الإعلام الموالي لأنظمة الإمارات والبحرين والسعودية

ظل الخطاب العربي الرسمي سنوات يتحدّث عن طبيعة الصراع مع الاحتلال الصهيوني بوصفه صراع وجود، لينتقل بعدها إلى مرحلة اختصاره لمجرد صراع إسرائيلي/ فلسطيني، ولينتهي حاليا إلى اعتباره مجرد خلاف في وجهات النظر، آن الأوان لتجاوزه، والمرور إلى مرحلة العلاقات الطبيعية. الخطير في هذا التصوّر الرسمي لبعض أنظمة الحكم محاولتها إقناع الرأي العام العربي بصوابية هذا التوجّه الجديد، وهو ما يقتضي تزوير التاريخ القريب ومسحه من الذاكرة. على الرغم من مقاومة الذاكرة الجمعية العربية، والتي تستعيد دوما الأحداث التي تكشف الطبيعة العدوانية للصهاينة، وتطلعهم إلى الهيمنة.

ساهمت المنظومة الرسمية العربية في تغييب الخطاب المقاوم والرافض للاحتلال، عبر حرف توجّهات الرأي العام، وإيجاد أعداء جدد، يحلون محل الصهاينة، ضمن دائرة التحريض الإعلامي، سواء كان هؤلاء الأعداء المفترضون دولا (مثل إيران وتركيا) أو جماعات (أحزاب سياسية أو قوى مجتمعية معارضة لأنظمة الحكم)، وقد شكلت ثورات الربيع العربي فرصةً لاستعادة الخطاب الحقيقي الذي يكشف أن التناقض الحقيقي إنما هو مع الاحتلال. ولذا لم يكن غريبا أن تشهد الميادين العربية مظاهراتٍ تنادي بتحرير فلسطين، تماما مثل رغبتها في إطاحة أنظمة الحكم الاستبدادية الفاشلة. وهنا حاولت أنظمة الاستبداد العربي تحويل وجهة الاحتجاجات، وتغيير المزاج العربي العام المعادي للصهيونية، ليصبح مجرّد مطالب معيشية (وهي محقة) لا تلتفت إلى جوهر الأزمة الذي تعانيه المنطقة بسبب الوجود السرطاني للكيان الصهيوني.

ساهمت المنظومة الرسمية العربية في تغييب الخطاب المقاوم والرافض للاحتلال

على الرغم من سيل الدعاية المتدفق والضخّ الإعلامي الموجه لمسخ الذاكرة العربية، ظل لفلسطين حضورها القوي في الشارع العربي. ويكفي أن نذكر الدور الحاسم للخطاب المعادي للاحتلال الصهيوني في أثناء الحملة الانتخابية الذي ساهم في صعود رئيس تونس الحالي، قيس سعيد، إلى رئاسة الجمهورية، على الرغم من التراجع المفجع في المواقف الذي تجلى لاحقا في خطاب الرئاسة التونسية، بما شكّل خيبة أمل فعلية في الشارع التونسي.

الاستعادة التاريخية وتنشيط الذاكرة عبر الحديث عن العدوان الصهيوني على تونس، وعلى أقطار عربية غيرها، هو جزء من مقاومة التطبيع المعلن الذي تحاول أنظمةٌ أن تفرضه على المنطقة، من خلال محاولة تخليق جيلٍ مشوّه منبتٍّ عن تاريخه القريب، عبر بث روح الهزيمة أو ترويج فهم خاطئ لمعنى التسامح والاعتراف بالآخر، كما يفعل الإعلام الموالي لأنظمة الإمارات والبحرين والسعودية، فلا يمكن أن نتحدّث عن تسامح أو تعايش مع الاحتلال حتى تتم استعادة الحقوق الشرعية ومحاسبة الذين أجرموا. أليس غريبا أن يظل الصهاينة مصرّون على محاسبة الذين تورّطوا في المحرقة زمن النازية، وملاحقة كل الذين يصنفونهم "معادين للسامية". وفي المقابل، يصرّون على إلغاء تاريخ عدوانهم المتكرّر والمستمر إلى حدود اللحظة الراهنة في مفارقةٍ عجيبةٍ تكشف عن حقيقة التعايش المطلوب من العرب، والذي لا يمكن وصفه بغير كونه مجرّد خضوع لقوة احتلال قاهرة، وخدمة مصالحها، والحفاظ على وجودها غير الطبيعي في المنطقة.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.