في استحداث منصب نائب الرئيس الفلسطيني... سقوط "ساتر الحماية"
ياسر عرفات يلتقي في رام الله رئيس وزرائه في حينه محمود عباس 20/7/2003 فرانس برس)
لطالما كان الحديث عن نائبٍ للرئيس الفلسطيني مدعاةً لقلق المتحدّث من استياء الرئيس، سواء في عهد الراحل ياسر عرفات أو خلفه محمود عبّاس. في سرديّته لـ"ليلة انتخاب الرئيس" (تنصيب المجلس المركزي عرفات رئيساً لدولة فلسطين عام 1989)، عرض الراحل ممدوح نوفل (الحاضر في تلك الليلة) لأكثر من مشهد احتقنت فيه الأجواء لمجرّد طرح وجود نائبٍ للرئيس، في ظلّ رفض عرفات وجود نائب له، إلى درجة تهديده بعدم قبول تنصيبه رئيساً. وقد نُقل عنه تمريره أمام المجتمعين ما اعتبروه "نكتةً"، أنه يقبل بوجود نائب للرئيس فقط، في حال كان الرئيس "أبو عمّار"، ونائب الرئيس "ياسر عرفات"؛ أي هو نائب نفسه[1].
كان عرفات، قبل ذلك، قد جرّب وجود نائب له على مستوى رئاسته اللجنة التنفيذية لمنظمّة التحرير الفلسطينية، فترة قصيرة خلال العام 1969، عندما تولّى المحامي إبراهيم بكر صفة نائب رئيس اللجنة. وخلالها، اعترك الرجلان على الصلاحيات، فاستقال بكر بعد نحو سبعة أشهر. يقول نوفل: "منذ ذلك التاريخ، يشير أبو عمار إلى تلك التجربة بالقول "تنذكر وما تنعاد""، فوفقاً لتحليل نوفل، فإن "النائب حسب تفكير أبو عمّار هو الشيطان الرجيم. ووجود نائب رئيس دولة فلسطين أو نائب رئيس لجنة تنفيذية يعني شطب الرئيس. هكذا بكلّ بساطة يفهم أبو عمار موقف العرب والعالم من الموضوع. وجود نائب يشجّع الأعداء على شطب الرئيس، وغياب النائب يُعتبر ساتر حماية"[2].
استمرّ عرفات مناهضاً لفكرة وجود نائب له قبل أن يضطر لقبول رئيس للوزراء نتيجة ضغوط دولية
استمرّ الرئيس عرفات مناهضاً فكرة وجود نائب له حتى استشهاده خريف 2004، إلا أنه اضطرّ، قبل رحيله بنحو عام ونصف العام، لقبول وجود شخص يقاسمه الصلاحيات على مستوى السلطة الفلسطينية، نتيجة ضغوط دولية، فكان استحداث منصب رئيس الوزراء. تولّى ذلك المنصب ابتداءً عبّاس نفسه، ودخل سريعاً مع عرفات معتركَ تنازع الصلاحيات، بما ذكّر عرفات بتجربته مع إبراهيم بكر، ودعا عبّاس إلى الاستقالة بعد أقلّ من ستّة أشهر؛ ليخلفه أحمد قريع، ويتعايش مع الرئيس مهادناً فترة لم تدم طويلاً، انتهت برحيل عرفات. وهكذا، رحل الرئيس من دون وجود نائبٍ له، ولكن الأمر حينها لم يطرح إشكالاً عظيماً على صعيد إشغال مناصبه.
قبل رحيله، كان عرفات يشغل ثلاثة مناصب رئاسية: رئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمّة التحرير، وقد تولّاها للمرّة الأولى في إثر انتخاب اللجنة له عام 1969، التي أعادت انتخابه أكثر من مرّة، حتى رحيله. رئاسة دولة فلسطين، وقد تولّاها بتنصيبه بتلك الصفة من المجلس المركزي للمنظمّة عام 1989، ضمن حزمة إجراءات "دولانية" (رمزية) في إثر إعلان استقلال دولة فلسطين عام 1988. رئاسة السلطة الفلسطينية، وقد تولّاها ابتداءً بتنصيبه فيها من المجلس المركزي عام 1993، ثمّ نتيجة انتخابه شعبياً عام 1996.
برحيل عرفات، جرى إشغال المنصب الأول سريعاً في اليوم ذاته، إذ اجتمعت اللجنة التنفيذية وانتخبت عبّاس رئيساً جديداً لها من بين أعضائها (عملاً بأحكام النظام الأساس للمنظمة). أمّا المنصب الثالث، فشغله مؤقّتاً روحي فتّوح، بصفته رئيس المجلس التشريعي حينها (عملاً بأحكام القانون الأساس للسلطة)، إلى أن أُجريت انتخابات شعبية مطلع 2005، وفاز فيها عبّاس. وأخيراً، لم يجر إشغال المنصب الثاني إلا في خريف 2008، عندما نصّب المجلس المركزي عبّاس رئيساً لدولة فلسطين، قياساً على واقعة تنصيبه عرفات بهذه الصفة عام 1989. هذا المنصب رمزي، ولا أدّل على ذلك من شغوره نحو أربع سنوات. وعلى الأرجح عمد المجلس المركزي إلى تقليد عبّاس المنصب حينها لتدعيم شرعيته، في ظلّ المشارفة على انتهاء ولايته في منصب رئاسة السلطة. وهو ما يدخل ضمن شواهد أخرى على استراتيجيّة الاستنجاد بالمنظمّة كلّما اعترضت السلطة أزمة شرعية، بعدما تغوّلت السلطة على المنظمّة، في الطور الرابع لتحوّلات العلاقة بينهما. وهذه مسألةٌ يطول التعقيب عليها[3].
وهكذا، في المحصلة، جرى تجميع المناصب الرئاسية الثلاثة التي كان يشغلها عرفات عند عبّاس، من خلال ثلاث وقائع مختلفة. وبموجب ثلاثة أسناد متباينة للشرعية. وعليه، حال رحيل عبّاس، قبل تعيين "نائب للرئيس"، يفترض أن يجري إشغال المناصب الثلاثة من خلال ثلاث آليات: الأولى، رئيس اللجنة التنفيذية: ستسارع اللجنة التنفيذية للانعقاد وانتخاب أحد أعضائها لرئاستها. وسيكون إجراءً سليماً قانونياً، وفقاً للنظام الأساس للمنظمة.
الثانية، رئيس دولة فلسطين: غالباً سيعقد المجلس المركزي جلسةً وينصّب فيها رئيساً للدولة، قياساً على سابقتي 1989 و2008. وفي الحقيقة، لا يملك المجلس أو سواه صلاحية تنصيب أحدٍ رئيساً للدولة، وإن كان منصباً رمزياً. كما أن ما أقدم عليه المجلس في سابقتي 1989 و2008 ليس انتخاباً بالمعنى الدقيق؛ ففي المناسبتين لم يكن هنالك مرشّحون، بل "مرشّح" وحيد اقتُرح اسمُه في صيغة مشروع قرار للمجلس، وكان التصويت عليه من خلال "تصفيق" الحاضرين، بما يعني الموافقة بالإجماع أو شبه الإجماع[4]. ولذلك وصفنا الإجراء بـ"التنصيب".
الثالثة، رئيس السلطة الفلسطينية: كان يفترض أن يشغل المنصب مؤقّتاً (مدّةً لا تزيد عن 60 يوماً) رئيسُ المجلس التشريعي إلى حين إجراء انتخابات رئاسية، وذلك وفقاً للقانون الأساس للسلطة. وهذا ما حصل عند استشهاد عرفات. ولكن بحكم حلّ المجلس التشريعي عام 2018، أُغلق هذا الباب. وعليه، أقدم عبّاس في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 على سابقة، لعلّها الأخطر (حتى الآن) في مخالفة القانون الأساس (دستور السلطة)، بإصدار وثيقة تشريعية باسم "إعلان دستوري" (ليس لها من صفة الدستورية سوى اسمها)، عدّل بموجبها القانون الأساس، الذي يُفترض ألا يجري تعديله إلا من خلال المجلس التشريعي، وبأغلبية ثلثي أعضائه. في هذا الإعلان، غير الدستوري (لأنه يُخالف القانون الأساس)، جرى رسم آليةٍ جديدةٍ لسدّ الشغور في رئاسة السلطة، بإسنادها مؤقتاً إلى رئيس المجلس الوطني للمنظّمة (رئيس المجلس المركزي نفسه)[5] . وهي آلية سبق وحذّر منها كاتب هذه السطور في أكثر من دراسة، من بين آلياتٍ أخرى تلتفّ على الإرادة الشعبية وصندوق الانتخابات[6].
كانت هذه مقدّمة طويلة لا بدّ منها للتعليق على الحدث الذي استدعى كتابة هذا المقال. وهو تصريح الرئيس عباس، يوم 4 مارس/آذار 2025، بقوله حرفياً: "قرّرنا استحداث منصب وتعيين نائب لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية ودولة فلسطين" (يُشار له تاليا بـ"التصريح"). وذلك خلال خطابه في القمّة العربية الطارئة المنعقدة في القاهرة. كما لحق هذا التصريح، بعد عشرة أيام، صدور إعلان من رئيس المجلس الوطني موجّه إلى أعضاء المجلس المركزي، في 14 مارس/ آذار 2025 (يُشار إليه تاليا بـ"الإعلان")، يعلمهم فيه بأنه "سوف يتم دعوة المجلس المركزي للانعقاد في دورة عادية في الفترة ما بين 21 إلى 26 إبريل/ نيسان الحالي في مدينة رام الله"، وأن جدول الأعمال "سيتضمّن تعديلاً وتنقيحاً لمواد في النظام الأساس للمنظمة، ومنها استحداث منصب نائب رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة". للتعليق على التصريح والإعلان، لا بدّ من "تشريح" في أربعة محاور.
لا يوجد منصب باسم "رئيس منظّمة التحرير"، ووصف عرفات، ثم عبّاس، به مغالطة تاريخية
حول استخدام تعبير "رئيس منظمّة التحرير الفلسطينية"
وفقاً لنظامها الأساس، لمنظمّة التحرير هيئتان أساسيتان: المجلس الوطني، وهو "السلطة العليا (...) الذي يضع سياسة المنظمّة ومخطّطاتها وبرامجها". وبذلك هو بمنزلة البرلمان؛ واللجنة التنفيذية، وهي "أعلى سلطة تنفيذية للمنظمّة (...) وتتولّى تنفيذ السياسة والبرامج التي يقرّرها المجلس الوطني وتكون مسؤولة أمامه". وهي بذلك بمنزلة الحكومة. منذ تعديل النظام الأساس للمنظمّة عام 1968، بات لكل هيئة منهما رئيس. وقد شغل عبّاس منذ 2004 (وكذلك عرفات ما بين 1969 - 2004) رئاسة اللجنة التنفيذية. أمّا المجلس الوطني، فقد تعاقب على رئاسته منذ 1969 ستّة أشخاص، آخرهم روحي فتّوح (منذ 2022). مع العلم أن رئيس المجلس الوطني حُكماً هو نفسه رئيس المجلس المركزي. ومع العلم أيضاً أن المجلس المركزي هيئة جرى استحداثها بعد قيام المنظمّة بنحو العقد، بوصفها هيئة مُنابة (إلى حدّ ما) عن المجلس الوطني ما بين دورتي انعقاده[7]. ولا بدّ من الإشارة كذلك إلى أن المجلس الوطني فوّض جميع صلاحياته للمجلس المركزي عام 2018، وبات مجلساً خاوياً في الواقع. وهذه معضلة أخرى، لا مجال للخوض فيها هنا[8].
وعليه، لا يوجد منصب باسم "رئيس منظّمة التحرير الفلسطينية". ووصف عرفات، وتالياً عبّاس، برئيس المنظمة، مغالطة تاريخية، وقع فيها كثير من السياسيين ووسائل الإعلام، بل حتى بعض المتخصّصين بالقانون. ولكن المستغرب أن يقع في هذه المغالطة عبّاس نفسه في "التصريح". لا سيّما أنه لم يقع فيها سابقاً (وكذلك عرفات) عند إصداره التشريعات والقرارات، بل التزم الصفة الرسمية؛ رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمّة. وذلك باستثناء حالتَين وحيدتَين فيما يبدو[9]. وعليه، نرجّح أن استخدام تعبير رئيس المنظمة في "التصريح" هو من قبيل المغالطة. ونستبعد وجود توجّه إلى استحداث منصب كهذا؛ لا سيّما عقب صدور "الإعلان"، الذي وردت فيه الصفة الرسمية والدقيقة للمنصب.
حول المقصود بتعبير "دولة فلسطين"
يُحيل تعبير دولة فلسطين عموماً إلى معنيين: معنىً قديم، وهو الدولة المنشودة التي أُعلن استقلالها عام 1988؛ ومعنىً جديد، وهو السلطة الفلسطينية ذاتها بعد الحصول على مركز المراقب في الأمم المتحدة (خريف 2012) لـ"دولة فلسطين"؛ إذ أصدر عبّاس مطلع 2013 مرسومَيْن بتعديل التسمية من "السلطة الفلسطينية" إلى "دولة فلسطين"، في التشريعات والأوراق والمعاملات الرسمية والأختام واليافطات.
والأرجح أن المعنى المقصود بتعبير دولة فلسطين في "التصريح" هو المعنى الجديد. ويدعم ذلك أن الرئيسين عرفات (أحياناً) وعبّاس (غالباً منذ خريف 2008، وحتى مطلع 2013) كانا يُضمّنان ديباجة و/ أو إمضاء التشريعات التي يُصدرانها بصفة "رئيس الدولة فلسطين"، قبل صفة "رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية"؛ تأسيساً على تسميتهما بالصفة الأولى من المجلس المركزي. أمّا منذ مطلع 2013، فقد استغنى عبّاس عن صفة رئاسة السلطة، على اعتبار أن الدولة حلّت مكان السلطة. وعليه، الأرجح أن عبّاس في "التصريح" قصد برئيس دولة فلسطين رئيس السلطة الفلسطينية، الذي يفترض أن يتولّى منصبه من خلال الانتخابات الشعبية، وفقاً للقانون الأساس للسلطة.
ولكنّ عباس عندما أصدر الإعلان الدستوري (سابق الإشارة) نهاية العام الماضي، لم يتحدّث عن سدّ الشغور في رئاسة الدولة، بل رئاسة السلطة. قد يبدو في ذلك، للوهلة الأولى، ما يشكّك بالترجيح السابق. ومردّ ذلك غالباً أن عبّاس، في الإعلان الدستوري، استخدم التعبير المستخدم أصلاً في القانون الأساس، لأن الإعلان معدّل له، وهو رئيس السلطة (لا ذكر فيه لرئيس الدولة).
التوجّه المراد من تعيين "نائب الرئيس"
جاء أعلاه إن الرئيس عبّاس جمع الرئاسات الثلاث من ثلاثة مصادر، وفي أوقات متباينة. وعرضت السطور السابقة آليات إشغالها فيما لو رحل، أو اعتزل مناصبه، قبل استحداث منصب "نائب الرئيس" وفقاً لما جاء في "التصريح". وهو ما قد ينتج عنه في الواقع توزّع المناصب على شخصيْن أو ثلاثة، ويدخل المقرّبين من الرئيس في تنازع عليها. كما أن رئاسة السلطة ستبقى مؤقّتة، وستبقى الانتخابات الشعبية متطلّباً لسدّ الشغور بشكلٍ غير مؤقّت.
وعليه، الأرجح أن هنالك توجّهاً إلى توريث المناصب الرئاسية لشخص واحد لا يملك أيّ شرعية، ولمدّة طويلة، فمن شأن استحداث منصب نائبٍ للرئيس، وإسناده إلى شخصٍ واحد يحمل "التركة" كلّها، أن يسدّ باب التنازع عليها، ويجعل من المؤقّت أكثر ديمومة. وذلك على حساب تغييب الإرادة الشعبية والاستمرار بمصادرتها في التهرّب من إجراء انتخابات. ولا سيّما في ضوء الرهان الشعبي على تحرير الأسير القائد مروان البرغوثي، الذي لا يُنازعه أحد (وفقاً لاستطلاعات الرأي منذ استشهاد عرفات) في فرص الفوز برئاسة السلطة (على الأقلّ)، حال إجراء انتخابات شعبية[10].
فكّ الرئاسات متطلّب إصلاحي من حيث المبدأ، إذ قاد الجمع بينها في الواقع إلى تعزيز التماهي بين ثلاثة كيانات، وكرّس سلطة الفرد
مع ذلك، يشكّك صدور "الإعلان" بعد عشرة أيام من "التصريح" في ترجيح هذا الفرض، ويطرح فرضاً ثانياً يهدف إلى فكّ الرئاسات، فيتولّى رئيس المجلس الوطني رئاسة السلطة وفقاً للإعلان الدستوري، فيما يتولّى رئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمّة التحرير، وربّما أيضاً رئاسة الدولة المنشودة، شخصٌ آخر، بتدخّلٍ من المجلس المركزي: إذ سيعدّل المجلس وفقاً لـ"الإعلان" النظام الأساس للمنظمّة لاستحداث منصب نائب رئيس اللجنة التنفيذية، لتنتخبه اللجنة التنفيذية تالياً، ويرتقي إلى رئاستها عند رحيل الرئيس.
أمّا رئاسة الدولة المنشودة، فالمجلس المركزي يعتقد أن بإمكانه تكرار التجربة للمرّة الثالثة بتنصيب شخصٍ بهذه الصفة. وقد يرسّخ هذا "العرف" بمناسبة تعديله للنظام الأساس للمنظمّة، ليمنح نفسه هذه الصلاحية. ولمّا كان الفرض الثاني يقوم على "غرض" فكّ الرئاسات، على خلاف الفرض الأول، فإن الشخص الذي سينصّبه المجلس المركزي رئيساً للدولة سيكون غالباً نفسه نائب رئيس اللجنة التنفيذية، ولكن ليس مباشرة، وإنما بعد ترقيته إلى رئاستها في إثر رحيل الرئيس. وبالتالي، سيؤجّل التنصيب برئاسة الدولة غالباً إلى ذلك الحين.
أمّا الهدف من فكّ الرئاسات فهو غالباً شعور الرئيس ونظامه بالاضطرار، آجلاً أو عاجلاً، لإجراء انتخاباتٍ رئاسيةٍ وتشريعيةٍ على مستوى السلطة، بعد فترة من تولي رئيس المجلس الوطني لرئاستها وفقاً للإعلان الدستوري. وبالتالي، في نظرهم، لا بدّ من وجود "مخرج" في حال حصلت الانتخابات، وفاز فيها شخصٌ آخر غير مرشّح النظام الذي سيكون نفسه من انتُخب مسبقاً نائباً لرئيس اللجنة التنفيذية. عندها (وربّما قبلها بقليل) سيجري تنصيب ذلك المرشّح الخاسر في رئاسة الدولة المنشودة، ويقف قبالة رئيس السلطة المنتخب، ويتنازعان على الصلاحيات.
فكّ الرئاسات متطلّب إصلاحي من حيث المبدأ؛ إذ قاد الجمع بينها في الواقع إلى تعزيز التماهي بين ثلاثة كيانات، وكرّس سلطة الفرد. ولكن الفصل الارتجالي غايةٌ في الخطورة، وسيعقّد الأمر بدلاً من حلّه، وسينتج عنه تنازع بين مراكز قوى. فعلى سبيل المثال، تُسند تشريعات السلطة الفلسطينية (الأدنى درجةً من القانون الأساس) للرئيس جملةً من الاختصاصات والصلاحيات، إلا أنها تُعرّف "الرئيس" بأنه رئيس السلطة/ الدولة، ورئيس اللجنة التنفيذية لمنظمّة التحرير، الذي لطالما شغلهما في الواقع شخصٌ واحد[11] . وبالتالي، من شأن قسمة المنصبَين بين شخصين أن تُحدث تنازعاً بينهما حول من منهما هو "الرئيس" المقصود.
حول آلية تنصيب "نائب الرئيس"
ما بين تاريخَي صدور "التصريح" و"الإعلان"، لم يكن في الذهن سوى فرض واحد حول آلية استحداث منصب نائب الرئيس، وهو من خلال "إعلان دستوري" جديد (غير دستوري هو الآخر)، وغالباً يُلغى بموجبه الإعلان الصادر نهاية العام الماضي (2024)، لأنه ينظّم آليةً أخرى لسدّ الشغور على مستوى رئاسة السلطة[12]. ويدور في فلك هذا الفرض (ليس فرضاً متمايزاً كلّياً) أن يعمَد المجلس المركزي إلى تنصيب شخصٍ نائباً للرئيس، بالمعنى الشامل الذي يتسلّم فيه تركة عبّاس كلّها. وقد يُطلب من المحكمة الدستورية التدخّل من خلال اختصاصها التفسيري لـ"تبارك" الآلية، وتضفي عليها الشرعية. وبناء على مواقف سابقة للمحكمة في دعم مصالح النظام[13]، لا نظنّها ستخذله.
أمّا بعد صدور "الإعلان" وحديثه عن توجّه إلى تعديل النظام الأساس للمنظمّة، لاستحداث منصب نائب رئيس اللجنة التنفيذية، بات هنالك فرض ثان، وهو استمرار سريان الإعلان الدستوري لتنظيم الشغور في رئاسة السلطة، فيما يجري تولية نائب رئيس اللجنة التنفيذية وفقاً للنظام الأساسي المعدّل للمنظمّة. أمّا رئاسة الدولة المنشودة، فذكر سابقاً أن المجلس المركزي يحتكر هذه الصلاحية في الممارسة، وقد يرسّخها نصّاً بمناسبة تعديله للنظام الأساسي للمنظمة.
خاتمة
يرجّح الكاتب أن الرئيس في "التصريح" قد وقع في مغالطة (أو تماشى مع خطأ شائع) باستخدامه تعبير رئيس منظمّة التحرير الفلسطينية، فيما المقصود رئيس لجنتها التنفيذية. كما يرجّح الكاتب أنه استخدم تعبير دولة فلسطين قاصداً السلطة الفلسطينية. أمّا المراد من تعيين نائب الرئيس، فالأرجح أنه توريث المناصب التي يجمعها عبّاس حالياً لشخصٍ واحد، من خلال إعلان دستوري جديد و/ أو بتدخّل المجلس المركزي و/ أو بمباركة المحكمة الدستورية. وإنْ كان صدور "الإعلان" تالياً يشكّك في ذلك، ويعزّز من نصيب فرض آخر يدور في فلك استهداف فكّ الرئاسات، تحوّطاً في حال الاضطرار إلى اللجوء للانتخابات الشعبية على مستوى السلطة. ولكنّ الكاتب يرجّح أن ما دعا إليه "الإعلان" لن يتحقّق. وفي الأساس، لا نجد داعياً لتعديل النظام الأساس للمنظمّة حتى تجري تسمية نائب لرئيس اللجنة التنفيذية، فهي إن كان لها أن تنتخب رئيسها بموجب النظام، فمن باب أولى لها انتخاب نائب له، وهو ما شهده الواقع أصلاً في ظلّ النظام الأساس الساري نهاية الستينيّات، كما سبق وأشير.
توجّه إلى توريث المناصب الرئاسية لشخص واحد، لا يملك أيّ شرعية، ولمدّة طويلة
في جميع الأحوال، سواء كان التوجّه نحو توريث الرئاسات لشخص واحد، أو فكّها، تكون "الذهنية السلطوية"، من خلال التوجّه إلى تنصيب نائب الرئيس، قد تفتقت إلى "حلّ" يبقيها قائمةً (أو مترنّحة بالأحرى) أطول فترة ممكنة، بدلاً من التجاوب مع المطالبات الشعبية بردّ الاعتبار إلى منظمّة التحرير، من خلال إعادة بنائها على أسس ديمقراطية ووحدوية، والاحتكام إلى صندوق الانتخابات، سواء على صعيد المنظمّة (انتخاب المجلس الوطني) أو السلطة الفلسطينية (الانتخابات الرئاسية والتشريعية).
للأسف! يتساوق هذا الحلّ مع ضغوطٍ عربيةٍ ودوليةٍ على الرئيس عبّاس لإيجاد طرق لسدّ الشغور في منصبه/ مناصبه في حال رحيله، أو حتى لتحجيم نفوذه قبل ذلك، بما يذكّر بما حصل مع الرئيس عرفات قبيل استشهاده، باستحداث منصب رئيس الوزراء. وبذلك، في المناسبتين كلتيهما، لم يكن الداعي الإصلاح أو تعزيز الديمقراطية، ولا أدلّ على ذلك في المناسبة الثانية من المكان، الذي صدر منه التصريح (اجتماع قمّة عربية)، فيما يفترض أن المسألة شأنٌ فلسطيني داخلي.
قد يُدافع بعضهم عن التوجّه إلى استحداث منصب نائب للرئيس بأنه إجراء تقتضيه "الضرورة". ولكن من تسبب بتفاقم حالة الضرورة هذه، طوال الخمس عشرة سنة الماضية، هو نفسُه من يحتج بها اليوم. لقد كان بإمكان الرئيس عبّاس (ولا يزال بالمناسبة) تدارك تلك الضرورة من خلال آليات ديمقراطية ومؤسّسية سبق طرحُها، بدلاً من حلّ "نائب الرئيس". ولا بدّ من الإشارة إلى أن الرئيس عبّاس، في سبيل ذلك "الحلّ"، سيكون قد قدّم "تضحيةً شخصيةً" غير مسبوقة، فنظرته إلى منصب نائب الرئيس، قبل إصداره ذلك التصريح، لم تكن أقلّ ريبة من نظرة الرئيس عرفات إليه. ولا شكّ أن عبّاس يدرك أنه باستحداث ذلك المنصب قد أسقط "ساتر الحماية"، عن نفسه على الأقلّ. ولكن الأخطر أن حلّ نائب الرئيس قد يُسقط أيضاً ساتر حماية عن الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، ولا سيّما فيما يتعلّق بخطط الآخرين لـ"اليوم التالي" للحرب في قطاع غزّة، أو لرحيل الرئيس، أو كليهما.
هوامش
[1] لتفاصيل سرد المشهد، ينظر: ممدوح نوفل، ليلة انتخاب الرئيس (رام الله: دار الشروق، 2005)، ص 40.
[2] المرجع نفسه، ص 132.
[3] ينظر بالخصوص: رشاد توام، "لعبة القانون: تحولات العلاقة بين السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية"، في: دراسات في تحولات المجتمع الفلسطيني ما بعد أوسلو (1): الفواعل والمؤسسات الفلسطينية (إسطنبول: مركز رؤية للتنمية السياسية؛ مركز الشرق للأبحاث الاستراتيجية، 2023).
[4] حول واقعة تنصيب عام عرفات، ينظر: نوفل، ص 247-248.
[5] لا يأخذ هذا الإعلان حكم القرارات بقوانين التي سنها الرئيس في غياب المجلس التشريعي، وإن كانت هي الأخرى موضع إشكال، لتجاوز الرئيس فيها حالة الضرورة التي تستدعي سن تلك التشريعات. ينظر: نوار بدير ورشاد توام، "القانون بوصفه حلقة مفرغة: الاحتجاجات المجتمعية ضد الحكومة الفلسطينية في الضفة الغربية"، عمران، المجلد 12، العدد 47 (2024)، 42-43.
[6] ينظر: رشاد توام وعاصم خليل، "الوظيفة المزدوجة للقضاء الدستوري في الأنظمة السلطوية والتجربة الفلسطينية"، سياسات عربية، المجلد 11، العدد 64-65 (2023)، ص44-45؛ توام، "لعبة القانون"، ص358؛ عاصم خليل ورشاد توام، "الشغور المفاجئ في منصب الرئيس: المعضلة والسيناريوهات المتوقعة"، سلسلة أوراق عمل بيرزيت للدراسات القانونية، العدد 12/2019، وحدة القانون الدستوري - جامعة بيرزيت، كانون الأول/ ديسمبر 2019.
[7] للتفاصيل حول بنية واختصاصات المؤسسات الدستورية في المنظمة، ينظر: رشاد توام، دبلوماسية التحرر الوطني: التجربة الفلسطينية (بيرزيت: معهد إبراهيم أبو لغد للدراسات الدولية – جامعة بيرزيت، 2013)، ص 78-86.
[8] ينظر: رشاد توام، "تفويض المجلس المركزي باختصاصات المجلس الوطني الفلسطيني: أتغلب المشروعية الشرعية؟!"، صحيفة الحدث، 5 شباط/فبراير 2022.
[9] ينظر المادة (1) من قرار رقم (32) لسنة 2005، والمادة (2) من مرسوم رقم (20) لسنة 2013.
[10] لعل السبب المضمر لتعطيل الانتخابات العامة التي كان مقرر إجرائها عام 2021 هو خشية فوز البرغوثي بالانتخابات الرئاسية وهو في الأسر (إلى جانب ترشح أكثر من قائمة فتحاوية للانتخابات التشريعية، إحداها أعلنت دعمها ترشيح البرغوثي للرئاسة). ولا أدل على ذلك من أنه جرى تعديل القانون الانتخابي قبل موعد الانتخابات بأسابيع ليضع عراقيل أمام ترشحه للانتخابات. ينظر: رشاد توام، "العوار الدستوري في تقييد ترشح المستقلين للانتخابات الرئاسية الفلسطينية"، صحيفة الحدث، 28 شباط/فبراير 2021.
كما ألمحت في دراسة سابقة إلى عراقيل أخرى محتملة لاعتراض تولي البرغوثي رئاسة اللجنة التنفيذية للمنظمة حال فوزه برئاسة السلطة حينها. ينظر: توام، "لعبة القانون"، ص354-355. ولمزيد من التفصيل، ينظر: رشاد توام، "المجلس الوطني الفلسطيني والمعركة الانتخابية المسكوت عنها: قراءة أولية فيما يفترض أنه النظام الساري لانتخاب المجلس (2013)"، سلسلة هنري كتن لدراسات القانون العام، العدد 2/2021، جمعية القانونيين الفلسطينيين، نيسان/ ابريل 2021.
[11] باستثناء الفترة القصيرة (نحو شهرين) التي تولى فيها فتوح رئاسة السلطة ما بين رحيل عرفات وانتخاب عباس.
[12] بالمناسبة، لا نستبعد أن يستمر الرئيس عباس، أو خلفه، بإصدار إعلانات مشابهة أخرى خلال الفترة القادمة. على الأقل هكذا فهم ديوان الجريدة الرسمية عند نشره للإعلان السابق، بمنحه رقم (1) لسنة 2024، وكأنه تشريع له أساس مشروع!
[13] ينظر: توام وخليل، "الوظيفة المزدوجة".