في إزالة الالتباس من علاقة قطر و"حماس"

باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.
بعد تصريحات المتحدّث الرسمي لوزارة الخارجية القطرية، ماجد الأنصاري (9 /11/ 2024)، بتعليق بلاده جهودها في الوساطة بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وإسرائيل، تزايدت التكهّنات بشأن مستقبل علاقة قطر بـ"حماس"، في ظلّ مخاوفَ إقليميةٍ وعالميةٍ، من انعكاسات فوز المرشّح الجمهوري دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية أخيراً.
وفي سياق تحليل العوامل/ المحدّدات المؤثّرة في علاقة الدوحة بـ"حماس"، وما طرأ عليها من مستجدّات بعد حرب غزّة (2023 - 2024)، ومساراتها المحتملة بعد انتهاء الحرب، ثمّة أربع ملاحظات: أولاها، تتعلّق بالمحدّد القطري في العلاقة بالحركة، وفي سياسة الدوحة تجاه قضية فلسطين عموماً، إذ برزت، منذ هجوم 7 أكتوبر (2023)، سرعة التحرّك الدبلوماسي القطري، والفعل المُبادِر، ونشاط كبار مسؤولي الدولة في الزيارات والجولات الخارجية، واستقبال الزائرين والمسؤولين الأجانب، وتكثيف العمل في الوساطات، وبذل المساعي الحميدة لتقريب مواقف أطراف الصراع من بعضها، بحثاً عن حلولٍ ومخارجَ من حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة.
تلتزم قطر مقتضيات دور "الوسيط النزيه" ولا ترى أن ممارسة الضغوط على "حماس" تتّفق مع تعريف الدوحة لطبيعة دور الوساطة
وعلى الرغم من قيام قطر بدور الوسيط الرئيس في حرب غزّة الراهنة، فذلك لم يمنعها من التعبير عن مواقفها الواضحة، في تحميل إسرائيل والمجتمع الدولي تبعات الحرب، وتذكير العالم بأنّه لم يعد ممكناً الحديث عن "حقّ إسرائيل بالدفاع عن نفسها"، من دون التورّط في تبرير الجريمة، ولا سيّما مع استحالة ادعاء أيّ مسؤول جهله بالحقائق، في ظلّ صدور عديد من تقارير المنظّمات الدولية بشأن "قصف المدارس والمستشفيات واستخدام الغذاء والدواء سلاحاً"، كما جاء في كلمة أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة (24 /9/ 2024)، التي دان فيها اغتيال إسماعيل هنيّة، "أوّل رئيس وزراء منتخب لفلسطين".
إضافةً إلى ذلك، لا تنفصل رؤية الدوحة في علاقاتها بـ"حماس" عن مجمل مقاربتها الانفتاحية على العلاقات بكلّ الفاعلين المؤثّرين في الأزمات الإقليمية والدولية (بغضّ النظر عن اختلافات المواقف بين الدوحة وهؤلاء الفاعلين، مثل حزب الله أو حركة طالبان الأفغانية، إلخ)، وذلك في إطار تقديم المساعدات الإنسانية/ الإغاثية، بالتوازي مع العمل على نزع فتيل الأزمات الإقليمية، وحلّ الصراعات، عبر الدبلوماسية والحوار والتفاوض.
وفي هذا السياق، تلتزم قطر مقتضيات دور "الوسيط النزيه"، ولا ترى أن ممارسة الضغوط على "حماس" والفلسطينيين عموماً، تتّفق مع تعريف الدوحة بطبيعة دور الوساطة، ما يعني أن تعليق هذه الوساطة ليس موجَّهاً ضدّ "حماس"، بمقدار ما يهدف إلى منع حكومة بنيامين نتنياهو من الاستمرار في مناوراتها التفاوضية، في وقت تصعّد عدوانها على غزّة ولبنان والمنطقة بكاملها، من دون أدنى التزام بمقتضيات الشرعية الدولية، فضلاً عن أحكام القانون الدولي الإنساني، خصوصاً ما يتعلّق بحماية المدنيين والممتلكات والأعيان المدنية في زمن الحرب.
تتعلّق الملاحظة الثانية بمحدّدات حركة حماس في علاقتها بالدوحة، التي تأتي في إطار من الثقة المتبادلة بين الطرفَين، مقارنةً بتعقيدات علاقات "حماس" بدول "الاعتدال العربي"، الحريصة على علاقاتها بواشنطن، أكثر من دعم المقاومة، فضلاً عن اندفاع وسائل إعلامٍ تابعةٍ لهذه الدول، نحو "شيطنة" حركة حماس، والمقاومة الفلسطينية إجمالاً.
ويبدو منطقياً في ظلّ مناخ الثقة بين دولة قطر وحركة حماس، ووجود المكتب السياسي للحركة في الدوحة منذ عام 2012، أن تتمسّك الحركة بالوساطة القطرية، بسبب نزاهتها وجدّيتها، كما جاء في تصريحات القيادي في الحركة، خليل الحيّة، لوكالة أسوشييتد برس (24 /4/ 2024).
وعلى الرغم من بروز الحاجة الأميركية الإسرائيلية إلى التفاوض مع "حماس" بعد "طوفان الأقصى"، أقلّه بسبب ملفّ المحتجزين، ورفضها التفاوض المباشر مع الطرف الإسرائيلي، فقد لعبت أربعة عوامل دوراً حاسماً في إضعاف "الوضع التفاوضي" للحركة، على الرغم من صمود مقاتليها الأسطوري في مواجهة قوات الاحتلال: طول أمد الحرب، وكثافة الاستهداف الإسرائيلي للمدنيين والمستشفيات وأماكن اللجوء، واستخدام الغذاء والدواء سلاحاً ضدّ المدنيين، بغية تأليب الحاضنة الاجتماعية/ الشعبية على المقاومة، واغتيال أبرز قادة الحركة (خصوصاً إسماعيل هنيّة ويحيى السنوار).
وإلى ذلك، ثمّة عامل خامس ضاغط على "حماس"، إذ تتعارض أهدافها التحرّرية مع سياسات أنظمة الاعتدال العربي (خصوصاً النظام المصري)، التي بدأت تعوّل على إدارة ترامب للضغط على إسرائيل، وإقناعها بفرض اتفاقٍ جزئي يتيح وقف إطلاق نار مؤقّت، في مقابل تولّي مصر تدريب قوات من الشرطة الفلسطينية، بغية إرسالها إلى قطاع غزّة في اليوم التالي للحرب، والاهتمام أكثر بترتيبات ملفّ إدارة غزّة والوضع الأمني الجديد (كما نقلت هيئة البثّ الإسرائيلية كان 11، في 9/ 11/ 2024).
تتعلّق الملاحظة الثالثة بانعكاسات تعقيدات البيئتَين العربية والإقليمية في العلاقات القطرية الحمساوية، إذ تكشف مفارقةً لافتةً تتجلّى في دفاع إيران وتركيا عن "مشروعية" المقاومة الفلسطينية، وخصوصاً حركة حماس، فيما تشكّل أغلب المواقف العربية، سيّما المواقف المصرية والسعودية والإماراتية، عاملاً سلبيّاً ضاغطاً على العلاقات القطرية الفلسطينية، إذ لا تريد هذه الدول أن تحرز المقاومة الفلسطينية، سيّما حماس، أيّ انتصار واضح على إسرائيل، لأنه يؤكّد فشل نهج التسوية/الاعتدال مع إسرائيل، ما قد يدفع، في المحصلة النهائية، إلى تعميم فكرة المقاومة عربياً، على نحو يؤثّر في الأوضاع الداخلية للنظم العربية، ويوسّع الفجوة بينها وبين شعوبها، التي باتت تجتهد في البحث عن أدوات لدعم المقاومة، ولو رمزيّاً، عبر طريقتَين، إحداهما الحملات الشعبية لمقاطعة منتجات الشركات والعلامات التجارية التابعة للدول الداعمة لإسرائيل، والأخرى استمرار التظاهرات الشعبية الحاشدة في الحالات التي سمحت فيها السلطات العربية بذلك، خصوصاً في الأردن والمغرب واليمن.
وبينما تحاول أنقرة وطهران والدوحة والجزائر أن تلعب أدواراً تخدم الشعب الفلسطيني في نضاله لنيل حقوقه المشروعة، تلعب أغلب العواصم العربية دوراً سلبيّاً على هذا الصعيد، ما يؤكّد تأثير مسارات التطبيع العربي مع إسرائيل، سيّما بعد اتفاقات أبراهام و"صفقة القرن 2020"، على تراجع الالتزام العربي الرسمي بالحدّ الأدنى من دعم قضية فلسطين، والاستنكاف حتّى عن تنفيذ قرارات عربية (مثل قرارات القمّة العربية الإسلامية في الرياض 11/11/ 2023)، خصوصاً "كسر الحصار على غزّة"، و"فرض إدخال قوافل مساعداتٍ إنسانيةٍ عربيةٍ وإسلاميةٍ ودوليةٍ".
تتعلّق الملاحظة الرابعة بتأثير الضغوط الإسرائيلية في علاقة الدوحة بحركة حماس، إذ تطوّر في العقدَين الماضيَين الموقفُ العدائي الإسرائيلي تجاه قطر بسبب موقفها الداعم للمقاومة الفلسطينية، سيّما نشر سرديتها الإعلامية (عبر قناتَي الجزيرة وتلفزيون العربي)، في مواجهة تصاعد السياسة العدوانية الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني.
وإلى ذلك، كان واضحاً انتهاج رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، سياسة "التلاعب بأدوار الوسطاء"، سيّما تفضيل دورَي مصر والإمارات، في مقابل تقليص دورَي الدوحة وأنقرة، وتوظيف إسرائيل لوبيّاتٍ ومجموعات داخل الكونغرس الأميركي لدفع إدارة جو بايدن إلى ممارسة ضغوط على قطر وتركيا، لطرد قادة "حماس" الموجودين في الدولتَين؛ إذ تستهدف تلّ أبيب، وواشنطن، عبر هذه الحملات النفسية/ الإعلامية/ السياسية (يشرف عليها نتنياهو شخصيّاً)، تحقيق هدفَين: حرمان "حماس" (والشعب الفلسطيني عموماً) أيّ دعم عربي أو إقليمي أو دولي، وتكثيف الضغوط على "حماس" لكي تستسلم (محمّد نزّال لـ"العربي الجديد": "لا يتوقّع أن تحقّق المفاوضات حال استئنافها أيَّ نتائج". نشر بتاريخ 21 /11/ 2024).
تطوّر في العقدَين الماضيَين الموقفُ العدائي الإسرائيلي من قطر بسبب موقفها الداعم للمقاومة الفلسطينية
وعلى الرغم من استمرار العلاقة بين الدوحة و"حماس"، فإن العامل الأميركي يلعب دوراً كبيراً في منع استفادة الجانب الفلسطيني منها، علماً أن نتيجة الانتخابات الأميركية أخيراً حفّزت الحراك الدبلوماسي لإدارة بايدن بشأن حربي غزّة ولبنان، أقلّه بهدف حرمان الرئيس المنتخب ترامب ادعاء الفضل بإنهائهما.
يبقى القول إن استمرار العلاقة بين دولة قطر وحركة حماس يعكس استنادها إلى ركائزَ موضوعيةٍ تجعلها تدور ضمن حدود "علاقة متوازنة"، تخدم مصلحة طرفيها المباشرَين، فضلاً عن فوائدها لمصلحة إقليم الشرق الأوسط إجمالاً، في ظلّ حاجةٍ دولية وإقليمية إلى التفاوض مع "حماس" بعد 7 أكتوبر (2023)، (بسبب ملفّ المحتجزين في قطاع غزّة أساساً)، علماً أن السياسة الأميركية، لم تكن، حتى في أكثر لحظات إدارتي جورج بوش (الابن،2001-2008) تشدداً وتقسيماً للعالم إلى فسطاطَين: "من ليس معنا، فهو ضدّنا"، تنطوي على هذا القدر من "الانحياز الأيديولوجي الصهيوني" لإسرائيل، خصوصاً مع وجود سوابقَ في لجوء واشنطن إلى الحوار مع كثير من التنظيمات المسلّحة "السنّية" الأكثر تشدّداً من "حماس"، التي تتبنّى منظوراً براغماتياً/ وسطياً/ إخوانياً، وتنتهج سياسة "كسب المزيد من الأنصار"، وليس "خلق العداوات/ تكثير الأعداء"، رغبةً في توسيع علاقاتها الخارجية، إقليمياً ودولياً، بدليل حصر "حماس" فعلها المقاوم في الأراضي الفلسطينية، على الرغم من تراكم الانعكاسات السلبية للأبعاد الدولية في قضية فلسطين على قطاع غزّة وفلسطين كلّها، سيّما مع تجلّي تداعيات حرب الإبادة الإسرائيلية في الشهور المنصرمة، التي كشفت تحالفاً أميركياً/ ألمانياً/ مَجرياً/ إسرائيلياً "معادياً لحرّية فلسطين وشعبها"، وليس لحركة حماس فحسب.


باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.