في أهمية المؤتمر الوطني الفلسطيني
من أعضاء اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني الفلسطيني في أولى جلسات المؤتمر (حسين بيضون)
ينعقد المؤتمر الوطني الفلسطيني، الذي يختتم أعماله اليوم الأربعاء في الدوحة، استجابة للتهديدات والأخطار الوجودية التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني، وتحملاً لمسؤلية وطنية عظمى يستشعر الفلسطينيون ضرورتها الآنية والمستقبلية. إذ يواجه الشعب مرة أخرى وبعد انقضاء عقود على الغزو الصهيوني تعميقاً وتجديداً للإبادة الجماعية والتطهير العرقي بمقياس أكبر وأشمل لا سابق له، وبدعم مطلق ومشاركةٍ عُضوية من الولايات المتحدة.
ومع إدراك القادة الصهاينة المأزق الوجودي لمشروعهم، بسبب تجذر الشعب وثباته في أرضه، فقد سارعوا إلى ما أسموه حسم الصراع عِوض إدارته والتعايش معه، متطلّعين إلى تحجيم وحسم ما يصفونه بالخطر الديمغرافي. وبإسناد من الإدارة الأميركية أمعنوا قتلاً وهدماً وتشريداً في مدن الشعب الفلسطيني وقراه ومخيماته، مواصلةً لنهجهم العملي ونظريتهم المعلنة، قبل "7 أكتوبر" الذي اتخذوه ذريعة ومبرّراً لتعبئة المجتمع الصهيوني وتحشيده، وتضليل الرأي العام الدولي.
وإزاء كل هذه المعطيات، ومن منطلق التأكيد غير القابل للتأويل على شرعية تمثيل منظمة التحرير الشعبَ الفلسطيني، يتطلب تفعيل الدور الوطني للمنظمة، على نحوٍ قطعي، استجماع كل القوى الوطنية في الوطن وخارجه وتأطيرها لتشكيل قيادة وطنية جماعية وعلى أسس ديمقراطية، لتتخلص من وضعية تقوم على تفرّدية تجاوزت وأبطلت عملياً كل المؤسّسات القاعدية لمنظمة التحرير، واستبعدت وألغت المشاركة الضرورية المشروعة لقوى وطنية مقاومة فاعلة ومؤثرة، ويعود إليها فضل عظيم في إعادة الاعتبار لقضية الشعب الفلسطيني وفرضها على جدول الاهتمامات العربي والإقليمي والدولي، ما يوفر لهذا الشعب فرصة عظيمة لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب.
ولم يعد مقبولاً أمام هذه الهجمة الطوفانية الإبادية، وبعد هذا القدر الهائل من التضحيات، أن تستمر الحالة الانقسامية السياسية والجغرافية، التي تتواصل رغم المحاولات المتكرّرة لتوحيد الصفّ الوطني. ويؤكّد المؤتمرون أنهم لا يسعون وليس لديهم أي توجّه لتجاوز منظمة التحرير، ولا أن يسهموا بأي جهدٍ يستهدف بناء بديل أو منافس لها، وأنهم سيكونون عوناً وسنداً لكل جهد وإنجاز وطني، مهما كان محدوداً، خاصّة إذا استعاد جزءاً من أرض الوطن. ومن نافلة القول تأكيدهم أنهم لن يشاركوا في أي محاولة تستهدف إضعاف منظمة التحرير التي تحظى بشرعية دوليةٍ دفع الشعب الفلسطيني أثماناً باهظة لتكريسها، وبصفتها مكسباً جوهرياً يجب الحفاظ عليه، فإنه يُتطلّع إليها لتكون الإطار الوطني الجامع لكل القوى الوطنية الحية والفاعلة.
ومن البديهي أننا لا نتطلع إلى وحدةٍ شكلية، بل إلى وحدة تنطلق من مسلّمات الشعب الفلسطيني وأهدافه في الحرية والاستقلال وحق العودة وتقرير المصير، ونتطلع إلى منظمة التحرير المؤهلة لأن تخاطب في لحظة مفصلية عالماً بات في حالة من الإصغاء والانتباه الدقيقَين لما يقوله ممثلو الشعب الفلسطيني. المنظمّة التي تؤكد وتتشبث بعناد وتصميم لا ينثني بالرواية التاريخية الواقعية والمحقّة لشعبٍ أصيل منغرسٍ في وطنه التاريخيّ، ومناضلٍ ضدّ الاستعمار الصهيوني الاستيطاني الإحلالي المتسلِّح بمزاعم مختلقة وأساطير زائفة.
أيّ تحالف لا يُبنى على قاعدة الالتزام بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني لن يكون مقبولاً
ويؤكد المؤتمر حق الشعب الفلسطيني في ممارسة كل أشكال (ووسائل) المقاومة التي تتيحها له الشرعية والأعراف الدولية، وهو الذي يتعرّض للاحتلال والتشريد والإبادة الجماعية والتهجير القسري. ولقد اتضح جلياً أن إسرائيل تمثل خطراً داهماً يتجاوز فلسطين، ليشمل جوارها العربي قتلاً وتدميراً واحتلالاً، كما هو الحال في لبنان وسورية، وهيمنة تمتد لتشمل دولاً عربية أخرى. وبالمعنى الأكثر عمقاً، فإنها عبر ممارساتها تمثل مساحة احتكاك ديني وحضاري تهدّد السلم الدولي، وليس الإقليمي فحسب، وهذا يقود إلى استنتاج منطقي، مؤدّاه أنه لا يمكن أن تعرف المنطقة السلم والأمن بدون تفكيك المشروع الصهيوني الذي يحتل اليوم كامل فلسطين وأراضي دول عربية مجاورة، ويمارس سيطرة وهيمنة متزايدة على الخيارات السياسية لدول عربية كثيرة أخرى.
أيّ تحالف لا يُبنى على قاعدة الالتزام بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني لن يكون مقبولاً، وهذا يقتضي نزع الشرعية عن إسرائيل، وحتى من منظور القانون الدولي وقرارَي الأمم المتحدة (181و194) فإنّ إسرائيل تُعتبر دولة غير شرعية، لأن قبولها عضواً في الأمم المتحدة كان مشروطاً بتطبيق القرارين، وهو ما لم تلتزم به، فلماذا نمنحها شرعية هي فاقدة لها نشأة وتكويناً ومساراً؟. ومع أن العالم العربي تبنّى ما يُعرف بالمبادرة العربية التي تقوم على الاعتراف بها مقابل انسحابها من الأراضي المحتلة عام 1967، إلا أنّها لم تكتفِ بالرفض، بل وسّعت احتلالها لمزيد من الأراضي العربية. ونزع الشرعية عن الكيان الصهيوني لا يتنافى مع القانون الدولي، إضافة لكونه يَحول دون تمييع الحصانة المعنوية والكفاحية للشعب الفلسطيني، وخلخلة الالتفاف الدولي والعربي حول التعريف المبدئي للصراع، بوصفه صراعاً وجودياً في مواجهة مشروع استعماري استيطاني إحلالي.
التصدي لمشروع التهجير في قطاع غزّة والضفة الغربية وإفشاله هو أولوية المهام الوطنية في هذه المرحلة
وعلى امتداد مسارالصراع سجلت الحركة الوطنية الفلسطينية تاريخياً ثباتها في موقع التفوّق الأخلاقي والإنساني في مواجهة عدو لا يملك إلّا مشروع إبادة لشعبها، ولم تهدف في أي مرحلة لمحاربة اليهود بوصفهم يهوداً، ولم تقدّم هويتها من منظور ديني أو قومي شوفيني، بل هي حركة وطنية طامحة لتحرير وطنها وشعبها في مواجهة الحركة الصهيونية ذات المرجعية الدينية المختلقة والنافية قومياً وعرقياً لشعب البلاد الأصيل، في تأكيدٍ على عدميّة الحركة الصهيونيّة الأخلاقية والإنسانية، ليس تجاه الشعب الفلسطيني والأمة العربية فحسب، بل تجاه اليهود أنفسهم الذين نجحت في تضليلهم وخداعهم، وزجّهم في صراع صِفري.
يؤكد المؤتمر الوطني الفلسطيني أن الذخر الاستراتيجي في الصراع الوجودي هو ثبات الشعب الفلسطيني فوق أرضه. لذا فإنّ التصدي لمشروع التهجير في قطاع غزّة والضفة الغربية وإفشاله هو أولوية المهام الوطنية في هذه المرحلة، وتعزيزاً لصمود الشعب فإنّ علينا العمل بكل جهد ممكن لإغاثة وإعمار قطاع غزة ومخيّمات الضفة الغربية.
كلّ إنجاز محتمل وممكن للشعب الفلسطيني لن يتحقق بدون وحدة وطنية، عنوانُها منظمة تحرير وحدوية ديمقراطية بقيادة جماعية، تستلهم أهداف هذا الشعب في الحرية والاستقلال، وحقّ العودة وتقرير المصير، وحقّه الذي لا يُنازع فيه ببناء دولته على أرض وطنه.