في أصل التدهور العربي

27 يناير 2025
+ الخط -

ليس الشرق الأوسط مُجرَّد إقليم مهم في العالم، وإنما هو الأكثر أهميةً وتعقيداً وتداخلاً في ملفّاته وقضاياه. كما أن أطرافه والفاعلين فيه متعدّدون ومتفاوتون في القوة والقدرة والمكانة، وفي كلّ شيء تقريباً. ولا يمكن عزو ذلك التداخل والارتباط إلى أهمية المنطقة فقط، فكثير من أقاليم العالم ذات أهمية كبيرة بمواردها وقدراتها وموقعها الجيوستراتيجية. ثمّة سبب رئيس آخر للتعقيد والتشابك الشرق أوسطي، رغم وجوده في أقاليم أخرى، لكنّه عندنا جوهريٌّ بما لا يقارن، إنه التغلغل الخارجي في مفاصل المنطقة ومكوّناتها، شعوباً ودولاً وقضاياً. فبعد أن كانت المنطقة، قبل قرنَين فقط، تتكوّن من إمبراطورية عثمانية وأخرى فارسية ودويلات قليلة، جاء تقسيمها تعسّفياً إلى دول بأشكال هندسية بيد الاستعمار، ليجعل لكلّ منها مصالحها واهتماماتها وتهديداتها ومخاوفها، وليكون العامل الخارجي (غربي أو شرقي) هو الثابت المشترك فيما بينها جميعاً. وليلعب هو دور المظلّة الحامية لهذه الكيانات الجديدة كلّها من أيّ تهديد، لإغفال أن التهديد الحقيقي يكمن في تلك المظلّة نفسها.
بنظرة تأملية لأحداث وأوضاع وقضايا إقليم الشرق الأوسط (الذي كان في السابق عالماً عربياً) يمكن تتبع مصدر الخطر ومواطن الضرر على كلّ إنسان فيه. وبعيداً من مأساة فلسطين الأوضح من أيّ شرح، لم يتضرّر العرب أو يتعرّضوا لأيّ خطر من أخ عربي، بقدر ما تعرّضوا من الغرب وربيبته إسرائيل وحليفته إيران. نعم، إيران كانت دائماً حليفةً للغرب وعلى توافق معه في المصالح والمخاطر، من عهد الإمبراطورية البهلوية إلى ثورة الخميني، والتعاون مع واشنطن وتلّ أبيب ضدّ العراق في حربي الخليج الأولى والثانية، ثمّ الاحتلال الأميركي البريطاني. صحيح أن طهران لم تكن لتستطيع اختراق أيّ دولة عربية، وتأسيس نفوذ فيها، من دون ضعف داخلي، وتخاذل حُكّامها في حماية ورعاية شعوبهم، لكنّ الثابت أيضاً أن الغرب كان راعياً وراضياً لتسلّل طهران، تماماً مثل تلّ أبيب، ونفوذيتها إلى الداخل العربي ببطء ونعومة. فضلاً عن مسؤولية الغرب المؤكّدة عن تصعيد ورعاية (وحماية) أولئك الحُكّام، الذين لا يُعبِّرون عن الشعوب، ولا يعملون لصالح أمن أو استقرار دولهم.
المعادلة بسيطة، استقطاب وعمالة للخارج من ضعفاء وخونة داخليين، ومن ثمّ هياكل شكلية وسياسات مجحفة تخدم الحكام لا المحكومين، فتكون النتيجة ضعفاً عاماً وتردّياً شاملاً يضعان الجميع تحت سيطرة الغرب وأذنابه. وتتوالى الأزمات وتنتشر النزاعات في المنطقة بتلك الأيدي القذرة وأصابعها التي توجّه البوصلة في الداخل لحساب الخارج. ويدخل الجميع في حلقة جهنّمية من العَوز والضعف والتبعية، فمزيد من الانصياع لمطالب الغرب والخضوع لشروطه وتوجهاته، فتضيق فرص التنمية والاستقواء بالذات أو حتى بالآخر العربي، فندخل حلقةً جديدةً من الفقر والضعف... وهكذا تباعاً. لو لم تكن إسرائيل ووكلاؤها العرب في الخلفية، لما توحّش محمّد حمدان دقلو (حميدتي) في السودان، ولما عرف أحد في ليبيا اسم خليفة حفتر. ولولا الاحتلال الأميركي للعراق، لما وُجِد "الحشد الشعبي" أو غيره من مليشيات مسلّحة موالية لإيران، ولولا تغاضي العالم (غرباً وشرقاً)، لما تمكّن الحوثيون من الزحف نحو صنعاء قبل عقد واحتلالها حتى الآن. وليس الوضع أقلّ سوءاً في الصومال ولبنان وسورية. وهكذا حال معظم البلدان العربية، لكن بأشكال متنوّعة وأساليب مُفصّلة حسب طبيعة وخصوصية كلّ منها. فمنطقي تماماً أن تكون ملفّات المنطقة وقضاياها متشابهة ومتّصلة معاً، كالأواني المستطرقة، يُفضي كلّ منها إلى الأخريات.
بداية النجاة للعرب تبدأ بالتخلّص من التبعية للغرب وبناء القدرات الذاتية بالموارد والخبرات المتاحة، وهي تكفي وزيادة. لكن لكي يحدث هذا، ثمّة شرط حتمي مسبق، أيّ تفكير من دونه محض خيال، وهو توافر إرادة حقيقية لا ظاهرية.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.