Skip to main content
في أجواء انتخابات البلديات الفلسطينية
أسامة عثمان
في مركز اقتراع للانتخابات البلدية في قرية بيتين شرقي رام الله (11/12/2021/فرانس برس)

تتهيَّأ مدن الضفة الغربية لانتخابات مقرَّر أن تُجرَى في 26 من شهر مارس/ آذار الجاري، بعدما أُجريت في المجالس القروية، في القرى والبلدات الفلسطينية، قبل أشهر. ومع أن البلديات مؤسّسات خِدْماتية، بالدرجة الأولى، إلا أن انتخاباتها لطالما انطوت على أبعادٍ سياسية، أقلُّها في تظهيرها مؤشِّرًا على حجم التنظيمات والحركات المتقدِّمة إليها، ومدى ثقة الجمهور الفلسطيني بخطِّها السياسي، كما هو الحال في مجالس الطلبة، في الجامعات، وكما النقابات، كنقابة المهندسين والأطباء، وغيرهما.
وتأتي هذه الانتخابات بعد قرار الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس تأجيل انتخابات المجلس التشريعي، والرئاسة، بذريعة منْعِ الاحتلال الفلسطينيين في القدس من المشاركة فيها، وهو مانعٌ لا مؤشِّرات على موعدٍ مأمولٍ لزواله؛ فالتمسُّك به يعني تجميدًا للانتخابات الآنفة الذكر إلى ما لا يعلمون. ولذلك هذه الواقعة الانتخابية أشبه بالتعويض، أو التنفيس، الانتخابي. وحِمْلُها التمثيليُّ أكبرُ من حقيقتها.
وقد قرَّرت حركة فتح المشاركة الرسمية والصريحة بقوائم من أعضائها، فيما تشارك حركة حماس بشخصياتٍ بارزة منها، بصفةٍ فردية، لا حركية رسمية، مع اشتمال قوائمها على شخصياتٍ غير حمساوية، يسارية؛ من الجبهتين، الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين، أحيانًا. ولا نعدم ترشُّح شخصياتٍ محسوبة على الفتحاوي المفصول محمد دحلان.

السياسة تشتبك مع كلِّ شيء، تقريبًا، ولكن من غير المفيد تغوُّل السياسة، بمعناها الضيِّق، على الوظيفة الأساسية للبلديات

وفي زحمة هذه الأبعاد السياسية والشخصانية، يُخشَى أن تُهمَل الغاياتُ الموكولة بهذه البلديات، ووظيفتها المنتظَرة؛ من خدماتٍ حيويةٍ، هي مِن أساسيات صمود الفلسطينيين في وطنهم، كالماء والكهرباء، وتراخيص البناء، ومشروعات البنية التحتية، من طرق وغيرها.
ولا إيهام بإمكان عزل السياسة عن أيٍّ من مفردات الحياة، فلكلٍّ رؤيتُه، ومسارُه، والسياسة تشتبك مع كلِّ شيء، تقريبًا، ولكن من غير المفيد تغوُّل السياسة، بمعناها الضيِّق، على الوظيفة الأساسية للبلديات، بما قد يُفضي إلى تشويش أدائها، والمساس بما لا يقوم به غيرُها، ففي تقديم الاعتبارات الحزبية على اعتبارات الكفاءة، باستمرارية تلك الروح الحزبية والتنظيمية في القفز على معايير اختصاصيةٍ قد يفضي إلى تعطيل جزءٍ غيرِ يسير من فاعليَّة البلديات، وفي عرقلة تطوُّرها الضروري، لصالح تظهير إنجازاتٍ أقرب إلى الشكلية الإبهارية، حين تتجلى الإنجازات في مبانٍ ومنشآت جديدة، أكثر مما تقاس بأداء ما أُنشئِت تلك المباني من أجله، وحتى زيادة دخْل البلديات، كثيرًا ما يُعَدُّ إنجازًا، بحدِّ ذاته، وقلّما يُسأَل: كيف زاد هذا الدخْل؟ بالتحقُّق من أنَّ زيادته لم تكن بالإضرار، أو بإرهاق المواطنين، مثلًا، ثم، وهو الأهم: كيف يستفاد من زيادة الدخل؟ وهل يصل نفعُه إلى فئاتٍ واسعة من الناس؟ فالبلديات ليست شركات استثمارية.
في المقابل، لا نلحظ تقدُّم الأولويات الحقيقية، كالكهرباء والمياه، والصَّرف الصحّي، وحالة الشوارع، والأسواق؛ فالتطوير الذي يلحق شبكة الكهرباء محدود، ويظهر ذلك في الانقطاعات المتكرِّرة، حين يزيد الاستهلاك، وكذلك المياه، يتكرَّر انقطاعُها. وبعض البلديات أراحت نفسها من "عبء" الكهرباء؛ لتسلّم ما يُفترَض أنه من مهامها الرِّعائية، ومن ممتلكات البلدية، لشركات خاصَّة هدفُها الأساسي هو الربح، من دون أن تكون منتجة للطاقة الكهربائية، إنما يقتصر دورها على أن تكون وسيطة بين الشركات الإسرائيلية والمواطن. ولم يلحظ أكثريةُ الناس أن تلك الشركات الخاصة الرِّبْحية حسَّنت من جودة الخدمة، في مجالها، بالمقارنة بما كان عليه الحال حين كانت الكهرباء تحت تصرُّف البلدية.

غير قليلٍ من معالجات البلديات سطحية، ترقيعية، ولا رقابة حقيقية عميقة

وكذلك شبكة مواسير المياه التي أصاب كثيرًا من مواضعها العطَب والصدأ، فمثل تلك المشروعات الشاملة والحيوية كأنها غير جذَّابة، ومؤجَّلة، غالبًا؛ تُرَحَّل من مجلسٍ إلى تاليه. ولا نعدَم شكاوى من مواطنين في بعض كبريات المدن الفلسطينية عن تردّي خدمات البلدية، كالنظافة، وتنظيم أوضاع الأسواق، وما شاكل. فغير قليلٍ من معالجات البلديات سطحية، ترقيعية، ولا رقابة حقيقية عميقة، أو رؤية مقاربة لمشكلات كلِّ مدينة وتحدِّياتها، فأين دور وزارة الحكم المحلِّي، وهي المسؤولة عن البلديات والمجالس المحلية والقروية، فيما المواطن العادي لا يحسُّ أثرًا ملموسًا لها، في تناول مثل تلك القطاعات البالغة الحيوية، والتي تمسُّ كلَّ بيت، وكلَّ أحد؟
على أنَّ أيَّ إخفاق، أو تراكُم للديون، نتيجة سوء الإدارة، أو نتيجة فقدان النزاهة المالية، يتحمّل المواطنُ العاديُّ كلفته، برفع أسعار الخِدْمات، والضرائب، وهو لا يملك إلا أن يستجيب، فحصولُه على الماء والكهرباء مشروطٌ بدفْع ما يستحقُّ عليه. فيما حال غير قليلٍ من الأُسَر يصعب على الكافر، كما يقال، إذ يمكن ملاحظة ذلك، عندما ترى بعض من يشحن للكهرباء، بنظام الدفع المُسبَق، يقتصر على الشحن بمبلغٍ ضئيلٍ لا يكفيه إلا يومًا، أو يومين.

يلزم أن يشتمل البرنامج الانتخابي على تعديل ما يتوجَّب تعديلُه؛ بالرجوع إلى كلِّ التشوّهات البنيوية والهيكلية في البلدية نفسها

وفي هذه الأجواء الانتخابية، يتسابق المتنافسون على قول أحسن ما يمكن، من رؤى وبرامج، وليس هذا الشقّ الأصعب، فالكلام ليس عليه جمرُك، كما يردِّد عامَّة الناس، ولكن الرهان على متابعة تلك الأهداف، والبرامج. ولا يُنكَر حجم التحدّيات والتعقيدات، وأصعبُها عقبةُ الاحتلال الذي لا يزال يتحكَّم في كثير من طموحات البلديات، كتوسيع الخريطة الهيكلية، وتاليًا، قدرة البلدية على منح تراخيص البناء، وليس انتهاء بتزويد المدن الفلسطينية بالكهرباء، وتحديد سعرها، عن طريق شركة الكهرباء القُطرية الإسرائيلية، وهذه التبعية من علامات الحالة السياسية الفلسطينية المحكومة بالاحتلال، واعتباراته الخاصة. ومع أن الاحتلال يبقى العقبة الكبرى أمام الفلسطينيين، مؤسساتٍ وأفرادًا، فهو لا يصلح أن يكون مشجبًا لكل جوانب قصورنا الذاتي، فحتى تكون القائمة المتنافسة على رئاسة البلدية جادّة في الإصلاح، وقادرة عليه، لا تكفي الأقوال، ولا الشعارات؛ ففي حالتنا، يلزم أن يشتمل البرنامج الانتخابي على تعديل ما يتوجَّب تعديلُه؛ بالرجوع إلى كلِّ التشوّهات البنيوية والهيكلية في البلدية نفسها، وطواقمها، وموظَّفيها (يعيَّن غيرُ قليل منهم بما يفيض عن الحاجة)، تمهيدًا للتقدُّم على أرضية نظيفة. وليس مؤهَّلا لهذه المَهَّمة من يكون مَدِينًا لأحد، أو لتنظيم، لأنه سيكون مُجبَرًا على أن يسدِّد له مِن هامش قراراته المستقبلية، توظيفًا، وتمييزًا، ومحاصَصات، في حين يؤخَّر إصلاح المؤسسة نفسها، وزيادة فاعليَّتها، بما يصبّ في مصلحة الناس، والمدن. وهنا يلزم تفعيل قنوات تواصل بين إدارة البلدية، من جهة، وهيئات محليَّة، من أهل الرأي والاختصاص، من الجهة الأخرى؛ تغذيةً راجعة، واستنارةً للبلدية، ونقدًا موضوعيًّا، وواقعيًّا، تقوم به تلك الهيئات المرتفعة عن التحيُّزات الضيقة، للصالح العام، وما أضيعَه!
وأخيرًا، لا تعدو البلديات والمجالس المحلية كونَها من دوائر الدولة والمجتمع، تختزل العيوب، وتعكسها، ويُعَوَّل عليها، في مقاومتها، وتجاوزها.