في "معاداة السامية" مرة أخرى

في "معاداة السامية" مرة أخرى

07 اغسطس 2022

البرلماني مائير حبيب يتحدث في الجمعية الوطنية الفرنسية في باريس (28/7/2017/ فرانس برس)

+ الخط -

نائب عن الفرنسيين في المهجر، وهو الليكودي مائير حبيب، الذي يُمثّل الإسرائيليين في فرنسا أكثر من تمثيله المفترض الفرنسيين في الخارج، طرح سؤالاً على الحكومة في أثناء جلسة استجواب عادية يقوم بها النواب الفرنسيون. وكان سؤاله يتعلق بمجريات التحقيق بحادث إرهابي وقع في حي تقطنه نسبة كبيرة من اليهود الفرنسيين في باريس سنة 1982، وذهب ضحيته حينها ستة من المارّة. وكما عادته دائماً، لا يتورّع النائب عن طرح أمورٍ إسرائيلية في مجلس نواب فرنسيين، ولو عبر المناورة والحيلة. وقد أراد بسؤاله هذا فتح ملفٍّ أوسع وأكثر تحريضاً على الانشقاق في صفوف النواب الفرنسيين، وخصوصا من هم في كتلة اليسار. ومن الناحية النظرية، يُنتظر من وزير العدل أن يُجيب عن هذا السؤال بإيراد نتائج التحقيقات التي توصلت إليها حينها، وبعد حين أيضاً، الأجهزة المختصة، والتي أبدت اهتماماً واسعاً بهذا الحدث منذ وقوعه، وعلى اختلاف الحكومات التي تعاقبت على إدارة البلاد منذ ذلك الحين.

في إجابته عن سؤال النائب الليكودي في البرلمان الفرنسي، توسّع وزير العدل، إيريك دوبون موريتي، في الكلام ليهاجم ممثلي اليسار الفرنسي لأن جزءاً منهم لا يتجاوز 36 نائبا من أصل 150 كانوا قد تقدموا بطلب مناقشة مسألة عنصرية الدولة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين. ومع ربطٍ غريب لهذا الطرح المشروع، إن استند هذا الوزير القانوني العتيد إلى النصوص التعريفية لما تعنيه العنصرية، بمسألة معاداة السامية، فقد حرّض الوزير بطرحه هذا ممثلي اليسار على الخروج من قاعة المجلس مستهجنين طريقته. ولكن الوزير، وهو المحامي السابق المعروف في الدفاع عن قضايا جرمية كثيرة، والحصول على براءة مرتكبيها، تمكّن من زعزعة وحدة اليسار حول هذا الملف، قبل أن يقع تداوله رسمياً للنقاش، فباستغلال سؤال يبدو للوهلة الأولى بسيطاً، تمكّن الوزير الذي ربما كان قد نسّق لخطوته هذه مع النائب الليكودي، في إشعال فتيل نقاشٍ حساس يجعل الجميع في موقع دفاعي.

صارت مسألة ربط أي انتقاد للدولة الصهيونية وللممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة تدخل في إطار الاتهام بمعاداة السامية

وبعد أن اعتبر الرئيس إيمانويل ماكرون، في أكثر من حديث، أن معاداة الصهيونية تعادل تماماً معاداة السامية، وبعد أن أوضح أن اللجوء للتعبير الأول ما هو إلا وسيلة لتمويه ما يحمله التعبير الثاني، فقد صارت مسألة ربط أي انتقاد للدولة الصهيونية وللممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة تدخل في إطار الاتهام بمعاداة السامية. وبالتالي، من يقترب منها سيكون على حذرٍ شديد، لأن سيف الاتهام مسلط على رقاب كل من هاجموا سياسة إسرائيل، ودافعوا عن الحقوق المشروعة لمن تحتل أراضيهم وتمارس بحقهم أبشع الممارسات.

تكتل اليسار الفرنسي في البرلمان هو عرضة للانفجار في أية سانحة، فعلى الرغم من تحالفه في مجموعة نيابية تحاول أن تكون متجانسة المواقف، إلا أن مساراته العقائدية مختلفة، ففي حين يقترب الشيوعيون تقليديا من القضايا العادلة في العالم، ويسعون إلى اتخاذ مواقف إيجابية تجاه قضايا التحرّر، يقف الاشتراكيون متردّدين إزاء جزء من هذه القضايا. وهم يسعون دائماً لشراء براءتهم من أي تضامن علني وصريح مع الفلسطينيين، خوفاً وتوجّساً من أن ينالهم نصيب من اتهامات أصدقاء إسرائيل ضمن حزبهم وخارجه الذين يستعملون العنف اللفظي والإدانات الجاهزة والرادعة بمعاداة السامية، والتي يعتبرها القانون الفرنسي جناية. وقد استطاع النائب الليكودي، مائير حبيب، بتحالف مبطّن مع الوزير الماكروني، وبسؤاله عن قضية جرمية قديمة، من أن يدفع الوزير إلى طرح مسألة الطلب المقدّم بخصوص عنصرية إسرائيل ضمن المجموعة اليسارية التي سرعان ما انبرى أحد نوابها الاشتراكيين للتشديد على تمسّكه بمبادئ الجمهورية وبتجريم معاداة السامية من أية جهة أتت. نال هذا النائب، إثر تمايزه، ومن يمثل، عن الكتلة، رضا رئيسة الوزراء، إليزابيت بورن، والتي أثنت عليه معترفة، وهي الاشتراكية السابقة، بأن أغلب مكونات اليسار، عدا كتلة "فرنسا الأبية" التي يتزعمها جان لوك ميلانشون، هم جمهوريون وملتزمون بما هو مجمعٌ عليه من خطوط حمراء فيما يتعلق بمعاداة السامية.

سيف الاتهام مسلط على رقاب كل من هاجموا سياسة إسرائيل

 

بهذه الاستراتيجية ثلاثية الأبعاد، عمّ الشك في المجموعة اليسارية، وبدأت تتعالى بعض الأصوات مطالبة بتمييزها عن الطلب المقدّم لمناقشة عنصرية الدولة الإسرائيلية. ولم تساعد تصريحات ميلانشون أخيرا بالتضامن مع الصين ضد زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، تايوان من تعزيز موقف اليسار، فقد استعاد هذا التصريح البافلوفي مواقف بعض اليسار التاريخية الذي كان يتضامن مع انتهاكات موسكو السوفييتية والبوتينية حقوق الإنسان. تصريحٌ متهوّر لن يفيد قضية مشروعة، خصوصاً أن من يتبنّاها يمكن أن يتهم بازدواجية المعايير، حيث إنه من جهة يؤيد الصين وأنظمة عربية ديكتاتورية، ويرى في بوتين رمزاً إيجابياً عن باطل، ومن جهة أخرى، يريد إدانة العنصرية الإسرائيلية عن حق.

أين إسرائيل من هذا كله؟ لا بد من أنها تُجزل بالثناء على النائب مائير حبيب، والذي تشهد محاضر جلسات المجلس، منذ سنوات، أنه لم يطرح لا نيابياً ولا إعلامياً أي موضوع يتعلق بالفرنسيين، بل هو يُسخر جلّ وقته وجهده ليكون صوت اليمين الإسرائيلي المتطرّف في البرلمان الفرنسي.